كانت أقرب المواني إليه برشلونة، وفي طريقه إليها توقف عند قرية مانريزا. ودلته عجوز على مغارة يأوي إليها. فجعلها مسكنه أياماً، وإذ كان حريصاً على أن يبز القديسين في نسكهم، فقد مارس هناك من التقشف الصارم ضروباً كادت تقضي عليه. وفي ندمه على ما أسلف من خيلاء بمظهره، كف عن تنظيف شعره أو قصه أو تمشيطه-فسقط بعد قليل. وأبى أن يقص أظافره أو يستحم أو يغسل يديه أو وجهه أو قدميه (٢٩)، وعاش على ما وسعه استجداؤه من طعام، إلا أن يكون لحماً؛ وكان يصوم أياماً بطولها، ويصوم نفسه ثلاث مرات في اليوم، وينفق الساعات في الصلاة كل يوم. وأمرت امرأة تقية بنقله إلى بيتها مخافة أن يؤدي هذا التقشف الصارم بحياته، وهناك مرضته حتى استعاد عافيته. ولكنه عاود جلد نفسه حين نقل إلى قلاية في دير دومنيكي بمانريزا. لقد أرعبته ذكرى ذنوبه الماضية، فشن الحرب على جسده باعتباره الأدلة لذنوبه، وصمم على أن ينتزع بالجلد كل فكرة خطيئة من جسده. وبدا الصراع أحياناً ميئوساً منه. ففكر في الانتحار. وهنا جاءته الرؤى التي شددته، واعتقد وهو يتناول القربان مرة أنه لا يرى قربانة بل المسيح الحي، وفي مرة أخرى ظهر له المسيح وأمه، ومرة رأى الثالوث، وفهم- بومضة من بصيرته يقصر دونها اللفظ أو الفكر- سر الأقانيم الثلاثة في الإله الواحد، وفي "مرة أخرى" كما يروي "أذن الله أن يفهم كيف خلق العالم"(٣٠). وأبرأت هذه الرؤى الصراع الروحي الذي ابتعثها، فطرح وراء ظهره كل قلق بسبب حماقات شبابه، وخفف من غلواء نسكه، وإذ قهر جسده فقد استطاع الآن أن يطهره دون غرور. ومن خبرة هذا الصراع الذي امتد قرابة عام وضع "الرياضيات الروحية" التي يمكن أن يخضع فيها الجسد الوثني للإرادة المسيحية. ورأى أن في وسعه الآن أن يمثل أمام المزارات المقدسة في أورشليم.