واعتزت محكمة التفتيش بصونها عقيدة العصر الوسيط نقية لا غش فيها، وبإنقاذها اسبانيا من الفرقة الدينية التي تتلوى فرنسا تحت قبضتها. وترك اهتمامها بالعقيدة دون السلوك حماية الفضيلة لرجال الاكليروس-وكانوا هم أنفسهم مشهورين بالتهاون في سلوكهم-ولموظفين المدنيين الذين حد من سلطانهم على الشعب خضوعهم لما تصدره محكمة التفتيش من أحكام بالسجن أو الغرامة. أما عفة النساء فلم يقم حارسا عليها الدين والقانون فحسب، بل «البونتو»، أي حق الدفاع عن العرض، وهو مبدأ يلزم كل ذكر بأن يدافع أو يثأر بالسيف لعرض أية امرأة في اسرته هدد أو انتهك. وكانت المبارزة غير قانونية ولكنها محببة إلى الشعب. وكان كرام النساء يلزمن بيوتهن في احتجاب شبيه بما كان عند العرب، يأكلن بمعزل عن الرجال، وقلما يصحبنهم علانية، ويركبن المركبات المقفلة إذا انتقلن من بيوتهن. وكان طلاب يد الفتاة يتوددون بالموسيقى تعزف من الشارع للعذراء المحتجبة خلف نوافذ ذات قضبان، وقل أن يؤذن لهم بدخول البيت حتى يصل والدا الطرفين إلى اتفاق، ومع ذلك كثرت زيجات الغرام (٧). وفي عهد فيليب الثاني احتفظ بمستوى الأخلاق عاليا على قدر ما سمحت به فتنة النساء أو خيال الرجال، وخفف من فساد الموظفين الطبيعي يقظة الملك، وإلى هزيمة الأرمادا كان يصون روح الشعب المعنوية اعتقادهم بأن أسبانيا تخوض حربا مقدسة ضد الإسلام، والأراضي المنخفضة، وإنجلترا، فلما تحطم الحلم انهارت أسبانيا جسداً وروحاً.
على أن الحياة الأسبانية كان لها بهاؤها وسحرها الملازمان لطبيعتها. فالاحسان واسع الانتشار، والسلوك المهذب يسود جميع الطبقات. ونصف الأمة يزعم لنفسه عراقة الأصل ويحاول الارتفاع بحياته إلى آداب الفروسية، ويصر على أن يرتدي لباس العشر الأعلى من السكان. وكان اللباس في عهد فيليب الثاني متوسط البساطة، فالرجال يلبسون أطواق الرقبة والصدرات