ولم تأت غلاطية بمزيد من الريالات؛ كان رعاتها مسرفين في بلاغتهم. إلا حين ينطقون بالشعر، ومع أن سرفانتس كان ينوي كتابة بقية لها، ومع أنه ظل إلى النهاية يعتبرها اروع ما كتب، فإنه لم يجد قط الوقت أو الحافز لاتمامه. ثم جرب كتابة التمثيليات طوال خمسة وعشرين عاما، فألف نحو ثلاثين منها، وكان رأيه أنها ممتازة، وهو يؤكد لنا أنها «مثلت كلها دون ان يعرض عليه أي جزاء (١٩)» ولكن واحدة منها لم تستهو الجماهير أو تلمس عرقا من ذهب. لذلك ارتضى وظيفة متواضعة في إدارة تموين الجيش والبحرية (١٥٨٧)، وسافر بصفته هذه إلى عشرات المدن تاركا زوجته في البيت. وقد ساعد في تموين الأرمادا الجبار. وفي عام ١٥٩٤ عين جابياً لغرناطة. وسجن في أشبيلية لمخالفات في حساباته، وأفرج عنه بعد شهور ثلاثة، ولكنه طرد من خدمة الحكومية. ومكث عدة سنين في فقر مدقع بأشبيلية وهو يحاول الارتزاق من قلمه. ثم قبض عليه مرة أخرى في أرجا ماريللا وهو يجوب أسبانيا. وتقول الرواية أنه في سجنه وفي بؤسه واصل تأليف كتاب من أكثر الكتب مرحا في العالم. فلما عاد إلى مدريد باع لفرانسسكو دي روبلز مخطوطة «حياة ومغامرات دون كخوته دي لامانشا الأشهر» فنشرت عام ١٦٠٥. وهكذا، وبعد ثمانية وخمسين عاما من الكفاح، بلغ سرفانتس شاطئ التوفيق.
ورحب كل الناس- عدا النقاد- بالكتاب مهرجانا من الفكاهة والفلسفة. وتقول رواية قديمة ان فيلب الثالث «لاحظ وهو واقف يوما بشرفة قصره في مدريد طالبا بيده كتاب على ضفة مانزاناريس المقابلة. وكان الطالب يقرأ، ولكنه بين الحين والحين كان يقطع قراءته ويلطم جبينه لطمات عنيفة تصحبها حركات لا حصر لها من النشوة والطرب. وقال الملك «إن الطالب إما ان يكون مجنوناً وإما إنه يقرأ … دون كخوته (٢٠)».
إن في هذه الصفحات الثمانمائة مآخذ كما في كل رائعة- فحبكة