وأحب إتيين دلابويتي. وقد رأينا في موضع آخر من هذا الكتاب أن هذا الأرستقراطي الشاب كتب وهو بعد في الثامنة عشر، مقالاً مشبوب العاطفة ولكنه لم ينشره، واسمه "مقال عن الرق الاختياري "، وقد اشتهر باسم "كونتران "- أي ضد حكم الرجل الواحد؟ وقد دعا الشعب فيه بكل البلاغة التي أوتيها دانتون فيما بعد، إلى الثورة على الحكم المطلق. ولعل مونتيني نفسه شعر ببعض الحماسة الجمهورية في شبابه. على أي حال جذبه هذا المتمرد النبيل، الذي بدا له- وكان يكبره بثلاث سنوات- آية في الحكمة والنزاهة:
"لقد فتش الواحد منا عن صاحبه قبل أن يراه، ومن الأخبار التي سمعها عنه … أظن أننا بأمر سري من السماوات تعانقنا باسمينا. وعند أول لقاء لنا، وكان بالصدفة في وليمة كبيرة واجتماع مهيب لمدينة بأسرها، وجدنا نفسينا مندهشين، متعارفين، … مرتبطين، بحيث أن شيئاً من الأشياء لم يقترب منا بعد ذلك اقتراب كل منا من صاحبه (٢٢).
ما السر في هذه الصداقة العميقة؟ يجيب مونتيني "لأنه كان هو، ولأنني كنت أنا (٢٣)"- لأنهما كانا مختلفين اختلافاً جعلهما يكمل الواحد منهما صاحبه. ذلك أن لابويتي كان المثالية كلها، والاخلاص الحار، والرقة والحنان، أما مونتيني فكان فيه من الثقافة والحصافة وعدم التحيز ما يمنعه من التفاني إلى هذا الحد، وقد وصفه هذا الصديق ذاته بأنه "يميل إلى الرذائل والفضائل البارزة على السواء (٣٤)". وربما كانت أعمق تجربة مر بها مونتيني في حياته هي مشاهدته صديقه يحتضر. ففي عام ١٥٦٣، وخلال طاعون تفشى في بوردو، مرض لابويتي فجأة بالحمى والدوسنتاريا. وقد احتمل موته البطيء بجلد رواقي وصبر مسيحي لم يغب قط عن ذاكرة صديقه الذي ظل ملازماً لفراشه في تلك الايام الأخيرة. وورث مونتيني مخطوطة المقال الخطر وخبأها ثلاثة عشر عاماً، ثم نشرت منه نسخة في طبعة مسروقة (١٥٧٦) وهنا نشر الأصل، وأوضح أنه تدريب في البلاغة لصبي "في السادسة عشرة ".