بعضهم أن البطنة قصرت أعمار الناس، وكتب إرزمس فنتر في ١٥٩٩ يقول "إن الإسراف في الطعام والشراب قلل من عدد المعمرين، وندر أن نرى رجلاً في الثلاثين أو الأربعين لا يشكو مرضاً، سواء كان الحصى، أو النقرس، أو السعال، أو السل، أو غيره"(٣١).
ولكن علينا ألا نأخذ هذه الشكاوى المعاصرة مأخذ الجد الشديد. فأغلب الظن أن كثرة الشعب كانوا قوماً مجدين، صابرين، يخافون الله بالمعنى الحرفي للعبارة. إلا أن الفضيلة لا ينوه بها التاريخ كما لا تنوه بها الصحف-وهذا دليل عن أنها أمر عادي مألوف. فقد كانت زوجات أهل المدن يلزمن بيوتهن في عزلة متواضعة مستغرقات في عشرات الواجبات التي لا تترك لهن فراغاً لارتكاب ذنوب أفدح من الثرثرة بالشائعات، وكانت الكثيرات من نساء الطبقة العليا-مثل أنا زوجة أغسطس الأول أمير سكسونيا الناخب-مثلاً يحتذى في الولاء الصادق للأسرة. ولم تخلُ ألمانيا الصاخبة تلك من الجوانب السارة. محبة الأطفال والبيت، وكرم الضيافة، والرقص والطروب والموسيقى الجميلة، والألعاب والمهرجانات المرحة، وأول شجرة ميلاد في التاريخ المدون كانت جزءاً من احتفال أقيم بألمانيا في ١٦٠٥، والألمان هم اللذين أحاطوا "عيد ميلاد المسيح" بالمظاهر البهية التي تخلفت من ماضيهم الوثني:
وكانت الرقصات والأغاني الشعبية تلد أشكالاً من الموسيقى المعزوفة؛ وكانت التراتيل بسبيلها إلى أن تصير كورالات ضخمة. وغدا الأرغن أثراً فنياً يدخل في فن المعمار، أما البيان القيثاري، والعود وغيرهما من الآلات الموسيقية، فكانت وليدة في التغني بالحب. وحليت كتب الترانيم أحياناً، لا سيما في بوهيميا، بزخارف رائعة. أما الترانيم البروتستانتية فكثيراً ما كانت تعليمية أو جدلية، وضحت في هذا السبيل برقة ترانيم العصر الوسيط المقدسة، ولكن الكورالات البروتستانتية كانت بشيراً بمقدم يوهان سبستيان باخ. وفرض التعليم الموسيقي على المدارس من جميع المذاهب، وكان مقام الـ"كانتور"-أي معلم الموسيقى-لا يعلو عيه إلا مقام المدير