للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال ابن العَرَبي: اللَّبَنُ رزق يخلقه الله طيبًا بين أخباث من فرْثٍ ودم، كالعلم نورٌ يظهره الله في ظلمة الجهل، فضرب به المثل في المنام. وقال بعض العارفين: الذي خلق اللبن من بين فرْث ودم قادرٌ على أن يخلق المعرفة من بين شك وجهل، ويحفظ العمل عن غفلة وزلل، وهو كما قال. لكن اطَّردت العادة بأن العلم بالتعلُّم، والذي ذكره قد يقع خارقًا للعادة، فيكون من باب الكرامة. قاله في "الفتح".

قلت: الذي يتوقف على التعلم من العلم إنما هو علم الشريعة، وأما المعارف والأنوار فلا تتوقف على التعلم، بل يهبها الله لمن يشاء من عباده، وهذا هو المراد بقول بعض العارفين. وقد أشبعنا القول على هذه المسألة في كتابنا "مُشْتهى الخارف".

وقال ابن أبي جَمْرَةَ: تأوّل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، اللبن بالعلم، اعتبارًا بما بين له أول الأمر، حين أُتي بقدح خمر، وقدح لبن، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أخذت الفطرة ... الحديث. قال: وفي الحديث مشروعية قَصِّ الكبير رؤياه على من دونه، وإلقاء العالم المسائل، واختبار أصحابه في تأويلها، وأنّ من الأدب أنْ يَرُدّ الطالب علم ذلك إلى معلمه. قال: والذي يظهر أنه لم يُرد منهم أن يُعَبِّروها، وإنما أراد أن يسألوه عن تعبيرها، ففهموا مراده، فسألوه، فأفادهم، وكذلك ينبغي أن يسلك هذا الأدب في جميع الحالات. قال: وفيه أن علم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بالله لا يبلغ أحدٌ درَجَته فيه؛ لأنه شرب حتى رأى الرِّيّ يخرج من أظفاره. وأما إعطاؤه فضله عمر، ففيه إشارة إلى ما حصل لعمر من العلم بالله، بحيث كان لا تأخذه في الله لومة لائم. قال: وفيه أنَّ من الرؤيا ما يدل على الماضي والحال والمستقبل. قال: وهذه أُوِّلت على الماضي، فإن رؤياه هذه تمثيل بأمر قد وقع؛ لأن الذي أَعْطِيه من العلم، كان قد حصل له، وكذلك ما أُعْطيه عمر، فكانت فائدةُ هذه الرؤيا تعريفَ قدر النسبة بين ما أعطيه من العلم وما أُعطيه عمر.

<<  <  ج: ص:  >  >>