المندوبات المحدودة شرعًا؛ لأن شأن العظماء إذا حدوا شيئًا أن يوقف عنده، ويعد الخارج عنه مسيئًا للأدب. وقد مثله بعض العلماء بالدواء يكون مثلًا فيه أوقية سكر، فلو زيد فيه أوقية أخرى لتخلف الانتفاع به، ولو اقتصر على الأوقية في الدواء ثم استعمل من السكر بعد ذلك ما شاء لم يتخلف الانتفاع، ويؤيد ذلك أن الأذكار المتغايرة إذا ورد لكل منها عدد مخصوص مع طلب الإِتيان بجميعها متوالية لم تحسن الزيادة على العدد المخصوص لما في ذلك من قطع الموالاة لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حِكمة خاصة تفوت بفواتها. وعند الطبراني في "الكبير" من حديث زميل الجهني قال: "كانَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا صلَّى الصبحَ قال وهو ثانٍ رجليهِ: سبحانَ اللهِ وبحمدِهِ، وأستغفرُ الله إنَّه كان توابًا سبعينَ مرةً، ثم يقولُ سبعينَ سبعمائةٍ" الحديث. وعند النَّسائيّ في اليوم والليلة عن أبي هريرة مرفوعًا:"مَنْ سبَّحَ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ مكتوبة مائةً، وكبَّر مائةً، وحمدَ مائةً غُفرتْ ذنوبُهُ وإنْ كانت أكثرَ مِنْ زَبَدِ البحر". وقد زاد مسلم في رواية ابن عجلان عن سمي قال أبو صالح:"فرجعَ فقراءُ المهاجرينَ إلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: سمعَ إخوانُنا أهلُ الأموالِ بما فعلنا فقالوا مثلَهُ فقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذلك فضلُ اللهِ يؤتيهِ مَنْ يشاءُ". وهذه الزيادة مدرجة من كلام سهيل فهي مرسلة، وقد رواها جعفر الفريابي عن حرام بن حكيم عن أبي ذرٍّ، ونقل الخطيب أن حرام بن حكيم يرسل الرواية فلم يصح بهذه الرواية إسناد إلا أن هذه الطريق وطريقة البزار عن ابن عمر الضعيفة يقوى بهما مرسل أبي صالح.
ومن فوائد هذا الحديث ما جرى بين العلماء من الخلاف في فضل الغني الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل، وهو بحث طويل وقد استوفينا الكلام عليه غاية الاستيفاء عند حديث ابن مسعود "لا حسد إلا في اثنتين" في باب (الاغتباط في العلم والحكمة) من كتاب "العلم" وفيه أن العالم إذا سئل عن مسألة يقع فيها الخلاف أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يجيب بنفس الفاضل لئلا يقع الخلاف. كذا قال ابن بطال وكأنه أخذه من كونه -صلى الله عليه وسلم- أجاب بقوله:"ألا أدلُّكم على أمرٍ تساوونهم فيهِ" وعدل عن قوله: "نعم هم أفضلُ منكم بذلك" وفيه التوسعة في الغبطة، وقد مرّ تفسيرها والفرق بينها وبين الحسد المذموم في الباب المذكور آنفًا من كتاب "العلم" وفيه المسابقة إلى الأعمال المحصلة للدرجات العالية لمبادرة الأغنياء إلى العمل بما بلغهمِ، ولم ينكر عليهم -صلى الله عليه وسلم- فيؤخذ منه أن قوله:"إلا مَنْ عمل" عامٌّ للفقراء والأغنياء خلافًا لمن أوّله بغير ذلك، وفيه أن العمل السهل قد يدرك به صاحبه فضل العمل الشاق، وفيه فضل الذِّكر عقب الصلوات. واستدل به البخاري على فضل الدعاء عقيب الصلاة كما يأتي في "الدعوات"؛ لأنه في معناها ولأنها أوقات فاضلة يرتجى فيها إجابة الدعاء، وفيه أن العمل القاصر قد يساوي المتعدي خلافًا لمن قال إن المتعدي أفضل مطلقًا.
[رجاله ستة]
قد مرّوا، مرّ محمد بن أبي بكر المقدمي في الرابع والثمانين من أحاديث استقبال القبلة، ومرّ