عكسه. وقال الطيبيّ: هذا الحديث أصل في معرفة حسن الخُلُق، وهو تتبع جميع الأخلاق الحميدة والخلال الجميلة.
خامس التعاليق قوله:"وقال كعب" يعني ابن مالك الخ، وهو طرف من حديثه الطويل في قصة توبته، الآتي بتمامه في تفسير سورة التوبة، وإنما منعه -صلى الله عليه وسلم- من صرف كل ماله، ولم يمنع الصديق، لقوة يقين الصديق، وتوكله وشدة صبره عن غيره من الصحابة، وكعب قد مرَّ في السادس والأربعين من استقبال القبلة.
[الحديث الحادي والثلاثين]
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:"خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ".
قوله:"ما كان عن ظهر غني" أي ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه، أو لمن تلزمه نفقة. قال الخطابيّ: لفظ الظَّهر يرد في مثل هذا إشباعًا للكلام، والمعنى أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية، ولذلك قال بعده:"وابدأ بمَنْ تعول". وقال البغويّ: معناه غنًى يستظهر به على النوائب التي تنوبه، ونحوه قوله: ركب متن السلامة، والتنكير في قوله: غني، للتعظيم، هذا هو المعتمد في معنى الحديث. وقيل: المراد خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة، وقيل:"عن" للسببية، والظهور زائد، أي: خير الصدقة ما كان سببها غنى في المتصدق.
وقال النوويّ: مذهبنا أن التصدق بجميع المال مستحب لمن لا دَين عليه، ولا له عيال لا يصبرون، ويكون هو ممن يصبر على الإضافة والفقر، فإن لم يجمع هذه الشروط فمكروه، وقد مرَّ هذا. وقال القرطبي في المُفهم: يرد على تأويل الخطابيّ بالآيات والأحاديث الواردة في فضل المؤثرين على أنفسهم، ومنها حديث أبي ذَرٍّ "أفضل الصدقة جهد من مُقِلّ" والمختار أن معنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال، بحيث لا يصير المتصدق محتاجًا بعد صدقته إلى أحد، فمعنى الغنى في هذا الحديث حصولُ ما تُدفع به الحاجة الضرورية كالأكل عند الجوع، المشوش الذي صبر عليه، وستر العورة والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله لا يجوز الإيثار به، بل يحرم، وذلك أنه إذا آثر غيره به أدى إلى اهلاك نفسه، أو الإضرار بها، أو كشف عورته، فمراعاة حقه أولى على كل حال. فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار، وكانت صدقته الأفضل لأجل ما يتحمله من مضض الفقر وشدة مشقته، فبهذا يندفع التعارض بين الأدلة إن شاء الله تعالى.