هذه الأحاديث على الترتيب في الواقع، فيكون أولًا رفع العلم بقبض العلماء المجتهدين الاجتهاد المطلق، ثم المقيد ثانيًا، فإذا لم يبق مجتهدٌ استووا في التقليد، لكن ربما كان بعض المقلدين أقرب إلى بلوغ درجة الاجتهاد المقيد من بعض، ولاسيما إن فرعنا على جواز تجزي الاجتهاد، ولكن لغلبة الجهل يقدم أهل الجهل أمثالهم، وإليه الإِشارة بقوله:"اتخذ الناس رؤساء جهالًا" وهذا لا ينفي ترئيس من لم يتصف بالجهل التام، كما لا يمتنع ترئيس من ينسب إلى الجهل في الجملة في زمن جهل الاجتهاد.
وقد أخرج ابن عبد البر في كتاب "العلم" عن درَّاج أبي السَّمْع أنه قال: يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حتى يصير عليها في الامصار يلتمس من يفتيه بسنة، قد عمل بها فلا يجد إلا من يفتيه بالظن، فيحمل على أن المراد الأغلب الأكثر في الحالين، وقد وجه هذا مشاهدًا. ثم يجوز أن يقبض أهل تلك الصفة، ولا يبقى إلاَّ المقلد الصرف، وحينئذ يتصور خلو الزمان من مجتهد، حتى في بعض الأبواب، بل في بعض المسائل، ولكن يبقى من له نسبة إلى العلم في الجملة، ثم يزداد حينئذ غلبة الجهل، وترئيس أهله. ثم يجوز أن يقبض أولئك حتى لا يبقى منهم أحد، وذلك جدير بأن يكون عند خروج الدّجال، أو بعد موت عيسى عليه السلام، وحينئذ يتصور خلو الزمان عمن ينسب إلى العلم أصلًا، ثم تهب الريح فتقبض كل مؤمن، وهناك يتحقق خلو الأرض عن مسلم، فضلًا عن عالم، فضلًا عن مجتهد، ويبقى شرار الناس، وعليهم تقوم الساعة، والعلم عند الله تعالى.
رجاله خمسة: الأول إسماعيل بن أبي أُويس، وقد مر في الخامس عشر من كتاب الإيمان, ومر الإِمام مالك، وهشام بن عُرْوة، وأبوه عُروة في الثاني من بدء الوحي، ومر عبد الله بن عمرو بن العاص في الثالث من كتاب الإيمان. أخرجه البخاري هنا، وفي الاعتصام عن سعيد بن تَلِيد،