لما فيها من الذكر والدعاء والخضوع، وكلها تُضَادُّ حب الرياسة، وعدم الانقياد للأوامر والنواهي، وكأن المصنف أراد بإيراد هذه الآية ما جاء عن ابن عباس أنه نُعي إليه أخوه قُثَم، وهو في سفر، فاسترجع، ثم تنحى عن الطريق، فأناخ فصلى ركعتين، أطال فيهما الجلوس، ثم قام وهو يقول:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الآية.
أخرجه الطبريّ في تفسيره بإسناد حسن، وعن حذيفة قال:"كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا حَزَبَه أمر صلى" أخرجه أبو داود بإسناد حسن أيضًا. قال الطبريّ: الصبر منع النفْس مَحَابَّها، وكفها عن هواها, ولذلك قيل لمن لم يجزع: صابر، لكفِّه نفسه. وقيل لرمضان: شهر الصبر، لكف الصائم نفسه عن المَطْعَم والمَشْرَب.
وقوله: إلا على الخاشعين، الخاشع الذي يرى أثر الذل والخضوع عليه، والخشوع في اللغة السكون. قال:{وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ}. وقيل: الخشوع في الصوت والبصر، الخضوع في البدن، واعلم أن الصبر ذكر في القرآن العظيم في خمسة وتسعين موضعًا، ومن أجمعها هذه الآية. ومن آنقها {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} قرن هنا الصابر بنون العظمة، ومن أبهجها قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ}.
وخص الصلاة بالالتجاء إليها لأنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية، من الطهارة وستر العورة، وصرف المال فيهما، والتوجه إلى الكعبة، والعكوف للعبادة، وإظهار الخشوع بالجوارح، وإخلاص النية بالقلب، ومجاهدة الشيطان، ومناجاة الحق، وقراءة القرآن، والتكلم بالشهادتين، وكف النفس عن الأطْيَبَيْنِ، حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب.
[الحديث الحادي والستون]
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى.
وهذا الحديث قد مرَّ أكثر مباحثه عند ذكره، في باب قول الرجل للمرأة عند القبر: اصبري، وأذكر طرفًا هنا، فقوله: عند الصدمة الأولى، فإنْ مفاجأة المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب، وتزعجه بصدمتها، فإنْ صبر للصدمة الأولى انكسرت حدتها، وضعفت قوتها، فهان عليه استدامة الصبر. فأما إذا طالت الأيام على المصاب وقع السُّلُوّ، وصار الصبر طبعًا حينئذ، فلا يؤجر عليه مثل ذلك.
والصابر، على الحقيقة، من صَبَر نفسه وحبسها عن شهواتها، وقهرها عن الحزن والجَزَع