والبكاء الذي فيه راحة النفس، وإطفاء نار الحزن، فإذا قابل فيها سَوْرة الحزن وهجومَه بالصبر الجميل، وتحقق أنه لا خروج له عن قضائه تعالى، وأنه يرجع إليه، وعلم يقينًا أنَّ الآجال لا تقديم فيها ولا تأخير، وأن المقادير بيده تعالى، ومنه، استحق حينئذ الثواب، فضلًا منه. وَعُدَّ من الصابرين الذين وعدهم الله تعالى بالرحمة والمغفرة، وإذا جزع ولم يصبر، أثِم وأتعب نفسه، ولم يرد من قضاء الله تعالى شيئًا، ولو لم يكن من فضل الصبر للعبد إلا الفوز بدرجة المعيّة والمحبة، أن الله مع الصابرين، إن الله يحب الصابرين، لكفى فنسأل العافية والصبرَ والرضى، واعلمْ أنَّ الصبر كِيْرُ العبدِ الذي يسبك فيه حاله، فإما أن يُخْرج ذهبًا أحمر، وإما أن يخرج خبثًا كله كما قيل:
سبكناهُ ونحسبه لُجينًا ... فأبدى الكير عن خبث الحديد
فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا فبين يديه الكير الأعظم، فإذا علم العبد أن إدخاله كير الدنيا ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك، وأنه لابد له من أحد الكيرين، فَلِيعلم قَدْر نعمة الله عليه في الكير العاجل، فالعبد إذا امتحنه الله بمصيبة فصبر عند الصدمة الأُولى، فليحمد الله تعالى أن أهَّلَه لذلك، وثبته عليه.
وقد اختلف هل المصائب مُكفِّرات أو مُثيبات، فذهب الشيخ عز الدين بن عبد الله في طائفة إلى أنه إنما يثاب على الصبر عليها, لأن الثواب إنما يكون على فعل العبد، والمصائب لا صنع له فيها، وقد يصيب الكافر مثل ما يصيب المسلم. وذهب آخرون إلى أنه يثاب عليها, لآية {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} وحديث الصحيحين "والذي نفسي بيده، ما على الأرض مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلاّ حط الله عنه به خطاياه، كما تحط الشجرة اليابسة ورقها". وفيهما:"ما من مصيبة تصيب المسلم، من نَصَب ولا وَصَب ولا هَم ولا حَزَن ولا أذى ولا غَم، حتى الشوكة، إلا كفَّر الله عَزَّ وَجَلَّ بها خطاياه" فالغم على المستقبل، والحزن على الماضي، والنصب والوصب المرض.
وفيه حَلْفُه -صلى الله عليه وسلم- تقوية لإِيمان الضعيف، ومسمى مسلم، وأن قل، ولو مذنبًا، ومسمى أذى وإن قل، وذكر خطاياه، ولم يقل منها طفح الكرم حتى غفر بمجرد ألم، ولو لم يكن للمبتلى في الصبر قدم. وقد ذكرت هنا بعض ما مرَّ ذكره في الباب السابق، لتخلله بغيره مما لم يذكر.
[رجاله خمسة]
قد مرّوا، مرَّ محمد بن بشار في الحادي عشر من العلم، وثابت البناني في تعليق بعد الخامس منه، ومرَّ غندر في الخامس والعشرين من الإِيمان، وشعبة في الثالث منه، وأنس في السادس منه. ثم قال المصنف: