قوله: اسمعوا وأطيعوا، أي في ما فيه طاعة لله، وقوله: استُعْمِل، بضم المثناة على البناء للمفعول، أي جعل عاملًا بأن أَمّر إمارة عامة على البلد مثلًا، أو ولي فيها ولاية خاصة، كالإمامة في الصلاة أو في جباية الخَرَاج أو مباشرة الحرب، فقد كان في زمن الخلفاء الراشدين من تجتمع له الأمور الثلاثة، ومن يختص ببعضها. وقوله: حَبَشِي، بفتح المهملة والموحدة بعدها معجمة، منسوب إلى الحَبَشة، وللمصنف في الأحكام وإن استعمل عليكم عبد حَبَشِيّ، وهو أصرح في مقصود الترجمة. وله في رواية بعد باب عن غندر بلفظ "قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذرٍ: اسمع وأطع، ولو لحبشيّ كأنَّ رأسه زبيبة". وأخرج مسلم عن أبي ذَرٍّ أنه انتهى إلى الرَّبذَة فإذا عبد يؤمهم، فذهب يتأخر لأجل أبي ذَرٍّ فقال أبو ذَرٍّ "إن خليلي صلى الله تعالى عليه وسلم أوصاني أنْ اسمعْ وأطعْ وإن كان عبدًا حَبَشيًا مُجدع الأطراف" وأخرجه الحاكم والبَيْهَقِيّ من هذا الوجه, وظهرت بهذه الرواية الحكمة في تخصيص أبي ذَرٍّ في هذه الرواية. وأخرج مسلم أيضًا عن أم الحُصين "أنها سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب في حِجَّة الوداع يقول: استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله".
وفي هذه الرواية فائدتان: تعيين جهة الطاعة، وتأريخ الحديث وأنه كان في أواخر عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وقوله: كأنّ رأسه زبيبة، واحدة الزبيب المأكول. المعروف الكائن من العنب إذا جف، قيل: إنما شبه رأس الحَبَشي بالزبيبة لتجمعها، ولكون شعره أسود. وقيل شبهه بذلك لِصِغَر رأسه، وذلك معروف في الحبشة، وقيل لقصر شعر رأسه وتفلفله، وهو تمثيل في الحقارة وبشاعة الصورة، وعدم الاعتداد بها. ووجه الدلالة منه على صحة إمامة العبد أنه إذا أمر بطاعته فقد أمر بالصلاة خلفه، ويحتمل أن يكون مأخوذًا من جهة ما جرت به عادتهم، أن الأمير هو الذي يتولى الإمامة بنفسه أو نائبه، واستدل به على المنع من القيام على السلاطين, وإن جاروا؛ لأن القيام على السلاطين يفضي غالبًا إلى أشد مما ينكر عليهم، ووجه الدلالة منه أنه أمر بطاعة العبد الحبشيّ. والإمامة العُظْمى إنما تكون بالاستحقاق في قُرَيش، فيكون غيرهم متغلباً، فإذا أمر بطاعته استلزم النهي عن مخالفته والقيام عليه، ورده ابن الجَوْزِيّ بأن المراد بالعامل هنا من يستعمله الإمام، لا من يلي الإمامة العظمى. وقيل: المراد بالطاعة الطاعة فيما وافق الحق. قلت: هذا الحمل متعين إجماعًا،