يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، لقول الله تعالى:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "كل مسلم راعٍ ومسؤول عن رعيته" فإذا لم يكن من سنته، فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها: ولا تزر وازرةٌ وِزر أخرى، وهو كقوله:{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} ذنوبًا {إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} وما يرخص من البكاء في غير نوح، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها" وذلك لأنه أول من سن القتل.
قوله: ببعض بكاء أهله، تقييد منه لمطلق الحديث، وحمل منه لرواية ابن عمر المطلقة على رواية ابن عباس المقيدة بالبعضية، كما ساقه في الباب عنهما، وتفسير منه للبعض المبهم في حديث ابن عباس بأنه النَّوح، ويؤيده أن المحذور بعض البكاء لا جميعه كما يأتي بيانه، وقوله: إذا كان النوح من سنته، يوهم أنه بقية الحديث المرفوع، وليس كذلك، بل هو كلام المصنف قاله تفقهًا. وبقية السياق يرشد إلى ذلك، وهذا الذي جزم به هو أحد الأقوال في تأويل الحديث المذكور، كما يأتي قريبًا إن شاء الله تعالى.
واختُلف في ضبطه قوله "من سنته" فلأكثر في الوضعين بضم المهملة وتشديد النون، أي طريقته وعادته. وضبطه بعضهم بفتح المهملة بعدها موحدتان، الأُولى مفتوحة، أي: من أجله. ورجح أبو الفضل بن ناصر الأخير، وأنكر الأول وقال: أي: سُنَّة للميت؟ وقال ابن المنير: بل الأول أولى لإشعاره بالعناية بذلك، إذ لا يقال من سُنَّته إلا عند غلبة ذلك عليه، واشتهاره به، وكان البخاري أُلهم هذا الخلاف، فأشار إلى ترجيح الأول، حيث استشهد بالحديث الذي فيه, لأنه أول من سَنَّ القتل، فإنه يُثبت ما استبعده ابن ناصر بقوله: وأي سُنَّة للميت؟ وأما تعبير المصنف بالنوح، فمراده ما كان من البكاء بصياح وعويل، وما يلتحق بذلك من لطم الخد وشق الجيب، وغير ذلك من المنهيات.
وقوله: لقول الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وجه الاستدلال لما ذهب إليه من هذه الآية أن هذا الأمر عام في جهات الوقاية، ومن جملتها أن لا يكون الأصل مولعًا بأمر منكر لئلا يجري عليه أهله بعده، أو يكون قد عرف أن لأهله عادة بفعل أمر منكر، وأهمل نهيهم عنه، فيكون لم يق نفسه ولا أهله. وقوله: وقال -صلى الله عليه وسلم- "كل مسلم راع ومسؤول عن رعيته" هذا طرف من حديث