وإذا تقرر أن الذي ارتفع علمُ تعيينها تلك السنة، فهل أُعلم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ذلك بتعيينها، فيه احتمال، فقد قال ابن عُيينة فيما علقه البخاري، ووصله محمد بن يحيى بن أبي عمرو في كتاب "الإيمان" له: كل شيء في القرآن فيه {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد أخبره به، وكل شيء فيه {وَمَا يُدْرِيكَ} فلم يخبره به، ومقصوده أنه عليه الصلاة والسلام كان يعرف ليلة القدر، لقوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} وهذا الحصر متعقب بقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} فإنها نزلت في ابن أم مكتوم، وقد علم صلى الله تعالى عليه وسلم بحاله، وأنه ممن تزكى ونفعته الذكرى اهـ.
قلت: يحتمل عندي أن يجاب عن هذا التعقيب بأن المراد من التزكي في هذه الآية التطهير من الذنوب لا الإِسلام، لأنه كان مسلمًا قبل ذلك، والتطهير من الذنوب لا يُعلم علم يقين إلا بالغفران يوم القيامة، أو بالوحي عليه عليه الصلاة والسلام، ويدل على هذا الجواب قوله عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري وغيره للأنصارية لما قالت لعثمان بن مظعون بعد موته: لقد أكرمك الله: "وما يدريكِ أنَّ اللهَ أكرمه" إلخ، ولم يُرِدْ عليه الصلاة والسلام إلاَّ علمها بأن الإكرام مغيب، متوقف على النجاة في يوم القيامة، هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم.
وروى محمد بن نصر، عن واهب المَعَافِريّ أنه سأل زينب بنت أم سلمة: هل كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعلم ليلة القدر؟ فقالت: لا، لو علمها لما قام الناس غيرها. وهذا قالته احتمالًا، وليس بلازم، لاحتمال أن يكون التعبد وقع بذلك أيضًا، فيحصل الاجتهاد في جميع العشر، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام على ليلة القدر في كتاب الاعتكاف اهـ.
[رجاله خمسة]
الأول قُتيْبة بن سعيد، وقد مر في الحادي والعشرين من كتاب الإيمان.