كأنَّه يشير إلى التفصيل بين أحوال القعود، فإن كان لمصلحة تتعلق بالحيّ أو الميت، لم يكره، ويحمل النهي الوارد عن ذلك على ما يخالف ذلك. ثم قال:{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} الأجداث: القبور، بعثرت: أثيرت، بعثرت حوضي أي: جعلت أسفله أعلاه، الإيفاض الإِسراع، وقرأ الأعمش {إلى نَصْب} إلى شيء منصوب يستبقون إليه. والنَّصْب واحد، والنَّصب مصدر يوم الخروج من القبور، ينسلون: يخرجون. أي المراد بالأجداث في الآية القبور.
وقد وصله ابن أبي حاتم وغيره عن قتادة والسدي، واحدها جَدَثٌ، بالتحريك، وقوله: بعثرت أثيرت، بعثرت حوضي جعلت أسفله أعلاه، هذا كلام أبي عبيدة في كتاب المجاز، وقال السديّ: بعثرت أي حركت فخرج ما فيها، رواه ابن أبي حاتم. وقوله: الإِيفاض الإِسراع، أي: بياء تحتانية ساكنة قبلها كسرة وفاء ومعجمة، كذا قال الفراء. وقال أبو عبيدة: يوفضون أي يسرعون.
وقوله: وقرأ الأعمش {إلى نصب} أي: بفتح النون، وفي رواية أبي ذَرٍّ بالضم، والأول أصح، وهو قراءة الجمهور. وحكى الطبرانيّ أنه لم يقرأ بالضم إلا الحسن البصري، وحكى الفراء عن زيد بن ثابت ذلك، ونقلها غيره عن مجاهد وأبي عمران الجوني.
وفي كتاب السبعة لابن مجاهد: قرأها ابن عامر بضمتين، أي: بلفظ الجمع، وكذا قرأها حفص عن عاصم، ومن هنا يظهر سبب تخصيص الأعمش بالذكر, لأنه كوفي، وكذا عاصم، ففي انفراد حفص عن عاصم بالضم شذوذٌ. قال أبوعبيدة: النصب، بالفتح، هو العَلَم الذي نصبوه ليعبدوه، ومن قرأ نُصْب، بالضم، فهي جماعة، نحو رَهن ورُهن. وقوله: يوفضون إلى شيء منصوب، يستبقون. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله {إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} أي: يبتدرون أيهم يستلمه أول.
وقوله: والنّصب واحد والنَّصْب مصدر، قال العينيّ: أشار إلى أن لفظ النَّصْب يستعمل اسمًا، ويستعمل مصدرًا، ويجمع على أنصاب، وقال في الفتح: كذا وقع فيه، والذي للغراء في "المعاني" النَّصْبُ والنَّصَبُ واحد، وهو مصدر، والجمع أنصاب، فكأن التغيير من بعض النقلة. وقال العينيّ: لا تغيير، وإنما قصد البخاريّ الفرق بين الاسم والمصدر، وما قاله غير ظاهر, لأن البخاري لم ينص على تفرقة، والإحالة على الأصل أولى.
وجعل القسطلانيّ الأول بالضم، والثاني بالفتح، وهذه تفرقة حسنة، لذكرهما معًا فيما تقدم،