أهل العلم أنه رفع الصوت بالبكاء، وقيل: هو صوت لَطْم الخدود، وقالَ الإسماعيليّ معترضًا على البخاريّ: النقع إنما هو الصوت العالي، واللقلقة ترديد صوت النواحة، ولا مانع من حمله على المعنيين بد أن فسر المراد بكونه وضع التراب على الرأس, لأن ذلك من صنيع أهل المصائب.
وقال ابن الأثير: المرجح أنه وضع التراب على الرأس، وأما من فسره بالصوت فتلزم موافقته للقلقة، فحملُ اللفظ على معنيين أَوْلى من حملهما على معنى واحدٍ، وأجيب بأن بينهما مغايرة من وجه، كما تقدم، فلا مانع من إرادة ذلك. وهذا الأثر وصله البيهقيّ أيضًا، ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي، وأبو سليمان خالد بن الوليد، وقد مرَّ في التاسع من الجنائز هذا.
[الحديث الخمسون]
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ.
قوله: عن علي بن ربيعة، صرح في رواية مسلم بسماع سعيد من علي، ولفظه "حدثنا" وأخرجه مسلم من وجه آخر، وفيه "قال علي بن ربيعة: أتيت المسجد والمغيرة أمير الكوفة، فقال: سمعت .. " فذكره، ورواه أيضًا من وجه آخر عن علي بن ربيعة، قال: أول من نيح عليه بالكوفة قُرَظَة بن كعب. وفي رواية التِّرمذيّ: مات رجل من الأنصار يقال له قُرَظة بن كعب، فنيح عليه، فجاء المغيرة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما بال النوح في الإِسلام؟
وقرظة المذكور، بالتحريك والظاء المُشالة، أنصاريّ خزرجيّ، كان أحد من وجهه عمر إلى الكوفة ليفقه الناس، وكان على يده فتح الرَّيّ، واستخلفه عليّ على الكوفة، وجزم ابن سعد وغيره بأنه مات في خلافته، وهو قول مرجوح، لما ثبت في صحيح مسلم أن وفاته حيث كان المغيره بن شعبة أميرًا على الكوفة، وكانت إمارة المغيرة على الكوفة من قبلَ معاوية من سنة إحدى وأربعين، إلى أن مات وهو عليها سنة خمسين.
وقوله "إن كذبًا عليَّ ليس ككذب على أحد" أي: غيري، ومعناه أن الكذب على الغير قد أُلف واسْتُسهل خَطْبه، وليس الكذب عليّ بالغًا مبلغ ذلك في السهولة، وإن كان دونه في السهولة فهو أشد منه في الإِثم، وبهذا التقرير يندفع اعتراض من أورد أن الذي تدخل عليه الكاف أعلى، وكذا لا يلزم من إثبات الوعيد المذكور على الكذب عليه أنْ يكون الكذب على غيره مباحًا، بل يستدل على تحريم الكذب على غيره، بدليل آخر، والفرق بينهما أنّ الكذب عليه توعد فاعله بجعل النار له مسكنًا، بخلاف الكذب على غيره، وقد تقدمت مباحث الحديث في كتاب العلم في باب "إثم