سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"يا أيُّها النّاسُ، إنّما الأعمال بالنيةِ" ففي هذا إيماء إلى أنه كان في حال الخطبة، أما كونه كان في ابتداء قدومه إلى المدينة، فلم أر ما يدل عليه.
فيما ذكر من المناسبات تعلم سقوط اعتراض من اعترض على المصنف إدخال حديث الأعمال هذا في ترجمة بدء الوحي قائلًا: إنه لا تعلق له بها أصلًا، بحيث إن الخَطّابي في "شرحه" والإسماعيلي في "مستخرجه" أخرجاه قبل الترجمة، لاعتقادهما أنه إنما أورده للتبرك به فقط، واستصوب أبو القاسم بن مندة صنيع الإسماعيلي في ذلك، وقال ابن رشيد: لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته في هذا التأليف.
ثم اعلم أن هذا الحديث تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدره، قال أبو عبد الله: ليس في أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء أجمع وأغنى، وأكثر فائدة من هذا الحديث، وقال ابن مَهْدي: يدخل في ثلاثين بابًا من العلم، وقال الشافعي: يدخل في سبعين بابًا، ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة، وقال عبد الرحمن بن مَهْدي أيضًا: يَنْبَغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب، واتفق الشافعي، وأحمد، وابن المَدِيْني، وابن مَهْدي، على أنه ثلث الإِسلام، ووجه ذلك بأن كسب العبد يقع بقلبه، ولسانه، وجوارحه، فالنية أحد أقسامه الثلاثة، وهي أرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة، وغيرها يحتاج إليها، ومن ثَمَّ ورد:"نيةُ المؤمنِ خيرٌ من عملهِ" وفي رواية "أبلغُ". رواه البَيْهَقِيُّ في الشعب عن أنس مرفوعًا، وقال: إسناده ضعيف، ورواه العَسْكَرِيُّ والقُضاعيُّ. وإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين، وبيان ذلك هو أن تخليد الله العبد في الجنة ليس بعمله، وإنما هو لنيته، لأنه لو كان لعمله لكان خلوده فيها بقدر مدة عمله أو أضعافه، إلا أنه جازاه بنيته، لأنه كان ناويًا أن يطيعَ الله تعالى لو بقي أبدًا، فلما اخترمته مَنِيَّتُهُ دون نيته جزاه الله عليها، وكذا الكافر، لأنه لو كان يجازى بعمله لم يستحقَّ التخليد في النار إلا بقدر مدة كفره، غير أنه نوى أن يقيم