فقلت لعمرو: قد كنت شاهدًا وكنت غائبًا، وقد أمرنا أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد بلغتُك. فهذا يدل على أنه لم يوافقه، وإنما ترك مناقشته لعجزِه عنه لما كان فيه من قوة الشّوكة.
وهذه المسألة التي وقع فيها الاختلاف بين أبي شُريح وعمرو، فيها اختلافٌ بين العلماء في تحريم القتل والقتال في الحرم. فأما القتل فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها. وخص الخلاف بمن قتل في الحل ثم لجأ إلى الحرم. وممن نقل الإجماع على ذلك ابن الجَوْزي واحتج بعضهم بقتل ابن خَطَل بها, ولا حجة فيه لأن ذلك كان في الوقت الذي أُحِلَّت فيه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كما مر. وزعم ابن حزم أن مقتضى قول ابن عمر وابن عباس وغيرهما أنه لا يجوز القتل فيها مطلقًا، ونقل التفصيل عن مجاهد وعطاء.
وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الحرم حتى يخرج إلى الحل باختياره، لكن لا يجالس ولا يكالم، ويوعظ ويذكر، حتى يخرج. وقال أبو يوسف: يُخْرج مضطرًا إلى الحل، وفعله ابن الزبير. وروى ابن أبي شيبة من طريق طاووس عن ابن عباس "من أصاب حدًا ثم دخل الحرم لم يُجالس ولم يُبايع". وعن مالك والشافعي يجوز إقامة الحد مطلقًا فيها, لأن العاصي هتك حرمة نفسه، فأبطل ما جعل الله له من الأمْن. وقال بعض العلماء: إن قوله في الحديث "إنّ الله حرم مكة" ظاهره أنَّ حكم الله تعالى بمكة أن لا يقاتل أهلها، ويؤمن من استجار بها, ولا يتعرض له، وهو أحد أقوال المفسرين في قوله تعالى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}[آل عمران: ٩٧] وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا}[العنكبوت: ٦٧].
وأما القتال، فقال الماوَرْدِيّ: من خصائص مكة أن لا يحارَب أهلها، فلو بغوا على أهل العدل، فإن أمكن ردّهم بغير قتال لم يُجَزْ، وإن لم يمكن إلاّ بالقتال، فقال الجمهور: يُقاتلون, لأن قتالَ البُغاة من حقُوق الله تعالى، فلا تجوز إضاعتها. وقال آخرون: لا يجوز قتالُهم بل يُضيَّقُ عليهم