قال في "الفتح": وهذه الهجرة يعني المذكورة في آية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ... إلخ}[النساء: ٩٧] باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر وقَدِرَ على الخروج منها. وقد روى النَّسائي من طريق بَهْزِ بن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن جده، مرفوعًا:"لا يَقْبَلُ اللهُ من مشركٍ عملًا بعدما أسلم أو يفارقَ المشركين" ولأبي داود من حديث سَمُرة مرفوعًا: "أنا بريء من كلِّ مسلمٍ يُقيمُ بينَ أَظْهُرِ المشركين"، قال: وهذا محمولٌ على من لَمْ يَأْمَنْ على دينه؛ وتأتي قريبًا تفرقة في ذلك؛ قال: وقد أطلق ابن التِّينِ أن الهِجْرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة، وأن من أقام بمكة بعدما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلى المدينة بغير عذر كان كافرًا، وهو إطلاق مردود.
قلت: ما قاله ابن التِّين موافق لما مر عن الوَنْشرِيْسِيّ في "معياره" و"لباب التأويل"، ثم قال عند حديث عائشة المار:"لا هجرةَ اليومَ ... الخ" أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق، لم تجِب عليه الهجرة منه، وإلا وجبت. ومن ثم قال الماوَرْدِيُّ: إذا قَدِرَ على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر؛ فقد صارت البلدة به دار إسلام؛ فالإِقامة فيها أفضل من الرِّحْلة منها، لما يُتَرَجّى من دخول غيره في الإِسلام. قال: وقال البغوي في "شرح السنة": يحتمل الجمع بينها بأن قوله: "لا هجرة بعد الفتح" أي من مكة إلى المدينة، وقوله:"لا تنقطعُ" أي من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الإِسلام. قال: وقد أفصح ابن عُمر بالمراد فيما أخرجه الإِسماعيليُّ بلفظ: "انْقَطَعَتِ الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تنقطعُ الهجرةُ ما قوتلَ الكفارُ". أي ما دام في الدنيا دار كفر؛ فالهجرة منها واجبة على من أسلم، وخشي أن يُفتَنَ عن دينهِ. ومفهومه أنه لو قُدِّرَ على أن لا يبقى في الدنيا دار كفر، فإن الهجرة تنقطع لانقطاع موجبها، والله أعلم.
قلت: تبقى الهجرة من بلد تكثر فيه المعاصي أو البدع إلى بلد أخف منه في ذلك، كما مر في حديث معاوية، وعبد الرحمن بن عوف عند