لأنه كان يُرَدُّ فيه من الطبائع البشرية إلى الأوضاع الملكية، فيوحى إليه كما يوحى إلى الملائكة، كما ذكر في حديث أبي هُريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعانًا لقوله: "كأنها سلسلة على صَفْوان، {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[سبأ: ٢٣] بخلاف الآخر الآتي لأنه أوحى إليه، وهو باق على بشريته. وأخرج الطَّبَرانِيّ، وابن أبي عاصم، عن النُّوَاس بن سَمْعان مرفوعًا: "إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رَجْفةٌ، أو رعْدة شديدة من خوف الله تعالى، فإذا سمع أهل السماء صَعِقُوا وخَرّوا سُجَّدًا، فيكون أولهم يَرْفَعُ رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به إلى الملائكة، كلما مرّ بسماء سأله أهلها: ماذا قال ربنا؟ قال: الحق، فينتهي به حيث أمره الله من السماء والأرض. وأخرج ابن مَرْدُويه عن ابن مسعود مرفوعًا:"إذا تَكَلَّمَ الله بالوحي يسمعُ أهلُ السماءِ صلصلةً كصلصلةِ السلسلةِ على الصَّفْوانِ فَيَفْزَعونَ" وعند ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وقَتادة أنهما فسرا آية {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}[سبأ: ٢٣] بابتداء إيحاء الله إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى. ولأبي الشيخ في كتاب "العظمة" عن وُهَيْب ابن الوَرْد، قال: بلغني أن أقرب الخلق من الله تعالى إسرافيل؛ العرش على كاهله، فإذا نزل الوحي ولّى لوح من تحت العرش، فيقرع جبهة إسرافيل، فينظر فيه، فيدعو جبريل، فيرسله، فإذا كان يوم القيامة، أتي به ترعد فرائصه، فيقال: ما صنعت فيما أدى إليك اللوح؟ فيقول: بلغت جبريل، فيدعى جبريل ترعد فرائصه، فيقال: ما صنعت فيما بلغك إسرافيل؟ فيقول: بلغت الرسل الأثر ... الخ.
واعلم أن العلم بكيفية الوحي سر من الأسرار التي لا يدركها العقل، وسماع الملك وغيره من الله تعالى ليس بحرف أو صوت، بل يخلق الله تعالى للسامع علمًا ضروريًا بثلاثة أمور؛ بالمتكلم، وبأن ما سمعه كلامه، وبمراده من كلامه، فكما أن كلامه تعالى ليس من جنس كلام