للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي "البيهقي" عن الزُّهري أنه قال في أكله عليه الصلاة والسلام من كتف شاة ولم يتوضأ: ذهبت تلك القصة في الناس، ثم أخبر رجالٌ من أصحابه صلى الله تعالى عليه وسلم، ونساءٌ من أزواجه أنه قال: "توضؤوا مما مسَّتِ النار"، فكان الزُّهري يرى أن الأمر بالوضوء مما مسَّتِ النار ناسخ لأحاديث الإباحة؛ لأن الإِباحة سابقة.

واعتُرض عليه بحديث جابر قال: "كان آخر الأمرينِ من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تركُ الوضوء مما مسَّتِ النارِ"، رواه أبو داود والنّسائي وغيرهما، وصححه ابن خزيمة وابن حِبّان وغيرهما، لكن قال أبو داود وغيره: إن المراد بالأمر هنا الشأن والقصة لا مقابل النهي، وإن هذا اللفظ مختصرٌ من حديث جابر المشهور في قصة المرأة التي صنعت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم شاة، فأكل منها، ثم توضأ وصلى الظهر، ثم أكل منها وصلى العصر ولم يتوضأ. فيُحتمل أن تكون هذه القصة وقعت قبل الأمر بالوضوء مما مسَّتِ النار، وأن توضُّؤه للظهر كان عن حدث لا بسبب الأكل من الشاة.

وحكى البَيْهقي عن عثمان الدّارِمي أنه قال: لما اختلفت أحاديث الباب، ولم يتبين الراجح منها، نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فرجَّحنا به أحد الجانبين، وارتضى النّووي هذا في "شرح المهذب"، وبهذا تظهر حكمة تصدير البخاري حديث الباب بالأثر المنقول عن الخلفاء الثلاثة.

قال النّووي: كان الخلاف فيه معروفًا بين الصحابة والتابعين، ثم استقر الإِجماع على أنه لا وضوء مما مست النار إلاَّ ما تقدم استثناؤه من لحوم الإبل.

وجمع الخطّابي بوجه آخر، وهو أن أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب لا على الوجوب. وقال المهلَّب: كانوا في الجاهلية قد ألفوا قلة التنظيف، فأمروا بالوضوء مما مسَّتِ النار، فلما تقررت النظافة في الإِسلام، وشاعت، نُسخ الوضوء تيسيرًا على المسلمين.

<<  <  ج: ص:  >  >>