ثم إن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئًا؛ لأنه إن كان طاهرًا فلا حاجة إليه، وإن كان متنجسًا لم يطهر بذلك.
قلت: النضح الذي هو الرش للمشكوك فيه مذهب الإمام مالك، وهو تعبدي، ولا يمكن إنكاره مع ما هو وارد في الحديث الصحيح، فقد أخرج البخاري عن أنس قال: فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبث، فنضحته بماء، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصففت أنا واليتيم ... إلخ. ولما رأى ابن حجر صراحة هذا الحديث في النضح للمشكوك فيه، قال في قوله:"فنضحته" يحتمل أن يكون النضح لتليين الحصير أو لتنظيفه أو لتطهيره، قال: ولا يصح الجزم بالأخير، بل المتبادر غيره؛ لأن الأصل الطهارة.
وما قاله غير ظاهر، بل الظاهر الجزم بالأخير لمناسبته لحال الحصير الذي هو اسوداده من طول اللَّبْث فإن كونه بهذا الوصف موجب للشك في نجاسته قطعًا، وأما الأولان فالحمل عليهما غير ممكن البتة، إذ كيف يمكن تنظيف حصير مسود بالنضح، وكيف يحصُل التليين بالنضح، فما قاله إنما هو تمحُّل وانتصار لمذهبه لا غير.
ومما هو صريح فيه أيضًا ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: كانت إحدانا تحيض ثم تقرُصُ الدم من ثوبها عند طهرها فتغسِلُه، وتنضح على سائره، ثم تصلي فيه. فقولها:"تنضح على سائره" بعد أن غسلت الدم المحقق صريح في أن النضح كان للشك ودفع الوسوسة، وقد ورد أن عمر قال حين شك في ثوبه هل أصابه شيء من المني: أغسِلُ ما رأيت، وأنضَحُ ما لم أر. وهو عمل الصحابة والتابعين، ولذا قال مالك في "المدونة": وهو من أمر الناس، يعني: عمل أهل المدينة، فبان أن الصواب مع مالك، وبالله تعالى التوفيق.
قال الخطابي: في هذا الحديث دليل على أن النجاسة إنما تزال بالماء دون غيره من المائعات؛ لأن جميع النجاسات بمثابة الدم لا فرق بينها وبينه إجماعًا، أي: فيتعين الماء لإزالة النجاسة، وهو قول الجمهور.