أحمد: ما كان بالعراق أشدُّ تبحرًا من هذين، وقد خفي عليهما ذلك. لكن مخالفتهما لا تقدح في الاحتجاج، وإن كان فيها ردٌّ على من ادّعى الإجماع. وقد نفى ابن المنذر الخلاف إلا عن الحسن، وغَفَل عن خلاف الشعبي.
ومما هو دالٌّ على الوجوب حديث التي شَكَتْ عينَها؛ ولم يُبِح لها الكحل، فلو لم يجب الإحداد لم يمتَنِعِ الكحل للدواء.
وأجيب بأن السياق يدل على الوجوب، فإن كل ما مُنع منه إذا دلَّ دليلٌ على جوازه، كان ذلك الدليل دالاًّ بعينه على الوجوب. كالختان، والزيادة على الركوع في الكسوف، ونحو ذلك. وقد روي في حديث قوي الإِسناد عن أسماء بنت عُمَيْس ما يعارض الوجوب بعد اليوم الثالث، أخرجه أحمد، وصححه ابن حِبّان، قالت: دخل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليوم الثالث من قَتْلِ جَعْفَر بن أبي طالب، فقال:"لا تَحِدِّي بعد يومِكِ". هذا لفظ أحمد، وفي رواية له ولابن حِبّان والطحاوي: لما أصيب جعفر، أتانا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال:"تسلبي ثلاثًا، ثم اصنعي ما شئت".
قال البلقيني في "شرح الترمذي": ظاهره أن الإِحداد لا يجب على المتوفى عنها بعد اليوم الثالث، بل ظاهر النهي أنه لا يجوز،؛ لأن أسماء كانت زوج جعفر بن أبي طالب، وهي أم أولاده باتّفاق.
وأجاب بأن هذا الحديث شاذٌّ مخالف للأحاديث الصحيحة، وقد أجمعوا على خلافه. قال: ويُحتمل أن يُقال: إن جعفرًا قُتِل شهيدًا، والشهداء أحياء عند ربهم. قال: وهذا ضعيف؛ لأنه لم يرِد في حقِّ غير جعفر، ممَّن قُطِع بأنهم شهداء، كحمزة، وعبدالله بن حرام، وغيرهما.
وأجاب الطحاوي بأنه منسوخ، وأن الإِحداد كان على المعتدة في بعض عُدَّتها في وقت، ثم أُمِرَت بالإحداد أربعة أشهر وعشرًا، ثم ساق أحاديث الباب، وليس فيها دليل على ما ادّعاه من النسخ، لكنه يُكْثرُ من ادِّعاء النسخ بالاحتمال، فجرى على عادته.