وقوله: أن يُعروا المدينة، في رواية الكُشْميْهنيّ "أن يُعْرُوا منازلهم" وهو بضم أوله وسكون العين المهملة وضم الراء، أي يتركوها خالية، يقال: أعراه إذا أخلاه، والعراء الأرض الخالية. وقيل: الواسعة، وقيل: المكان الذي لا يستتر فيه بشيء، ونبه بهذه الكراهة على السبب في منعهم من قرب المسجد، لتبقى جهات المدينة عامرة بساكنها. واستفادوا بذلك كثرة الأجر لكثرة الخطا في المشي إلى المسجد. وزاد في رواية الفَزَاريّ التي في الحج "فأقاموا" ومثله في رواية المخلص المتقدمة، وللتِّرمِذِيّ من حديث أبي سعيد "فلم ينتقلوا" ولمسلم "فقالوا ما يسرنا أنّا كنا تحوّلنا".
وفي الحديث أن أعمال البِرّ إذا كانت خالصة تكتب آثارها حسنات، وفيه استحباب السكنى بقرب المسجد، إلا لمن حصلت به منفعة أخرى، أو أراد تكثير الأجر بكثرة المشي ما لم يحمل على نفسه، ووجهه أنهم طلبوا السكنى بقرب المسجد للفضل الذي علموه منه، فما أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك عليهم، بل رجح درء المفسدة بإخلائهم جوانب المدينة على المصلحة المذكورة، وأعلمهم بأن لهم في التردد إلى المسجد من الفضل ما يقوم مقام السكنى بقرب المسجد، أو يزيد عليه. واختلف فيمن كانت داره قريبة من المسجد فقارب الخطأ بحيث تساوي خُطا من داره بعيدة، هل يساويه في الفضل أو لا؟ وإلى المساواة جنح الطَّبرِيّ.
وروى ابن أبي شيبة عن أنس قال: مشيت مع زيد بن ثابت إلى المسجد، فقارب بين الخُطا وقال: أردت أن تكثر خُطانا إلى المسجد. وهذا لا تلزم منه المساواة في الفضل، وإن دل على أن في كثرة الخطا فضيلة؛ لأن ثواب الخُطا الشاقة ليس كثواب الخُطا السهلة، وهو ظاهر حديث أبي موسى الماضي قبل باب، حيث جعل أبعدهم ممشى أعظمهم أجرًا، واستنبط منه بعضهم استحباب قصد المسجد البعيد، ولو كان بجنبه مسجد قريب، وهذا إنما يتم إذا لم يلزم من ذهابه إلى البعيد هجر القريب، وإلا فإحياؤه بذكر الله أولى، وكذا إذا كان في البعيد مانع من الكمال، كأنْ يكون إمامه مبتدعًا.