الحبيب الأمين. وقد قال ابن مسعود وأبو هُرَيرة، فذكرهما، فهذا قالوه تنبيهًا على صحة الحديث، لا أن قائله قصد به تعديل رواية، وأيضًا فتنزيه ابن مَعين للبراء عن التعديل لأجل صحبته، ولم ينزه عن ذلك عبد الله بن يزيد لا وجه له، فإن عبد الله بن يزيد معدود في الصحابة، والإلزام المذكور لابن مَعين ليس بلازم له, لأنّ يحيي بن مَعين لا يثبت صحبة عبد الله بن يزيد، وقد نفاها أيضاً مُصْعَبُ الزُّبَيريّ، وقد توقف فيها أحمد بن حنبل وأبو حَاتم وأبو داود، وأثبتها ابن البَرقيّ، والدارَقُطني، وآخرون.
وقد اعترض بعض المتأخرين على التنظير المذكور، فقال: كأنه لم يلم بشيء من علم البيان، للفرق الواضح بين قولنا فلان صدوق، وفلان كذوب، لأن في الأول إثبات الصفة للموصوف، وفي الثاني نفي ضدها عنه، فهما مفترقان، والسر في ذلك أن نفي الضد كأنّه يقع جوابًا لمن أثبته، بخلاف إثبات الصفة، والظاهر أن الفرق بينهما أنه يقع في الإثبات بالمطابقة، وفي النفي بالالتزام، لكن التنظير صحيح بالنسبة إلى المعنى المراد باللفظين ,لأن كلا منهما يرد عليه أنه تزكية في حق مقطوع بتزكيته فيكون من تحصيل الحاصل، ويحصل الانفصال عن ذلك بما تقدم من أن المراد بكل منهما تفخيم الأمر، وتقويته في نفس السامع.
قلت: جميع ما قالوه من أن قول القائل "غير كذوب" يفيد تأكيد العلم بالراوي، والتنبيه على صحة الحديث، وأن إثبات الصدق فيه يحصل بالالتزام غير موافق للفظ، ولا يعطيه عربية؛ لأن لفظ كذوب صيغة مبالغة فنفيها نفي للمبالغة في الكذب لا نفي للكذب من أصله حتى يثبت الصدق لمن لم يتصف به، فهو دال عربية على الاتصاف بقليل الكذب حين النفي، اللهم إلا أن يقال فيه ما قيل في قوله تعالى:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[فصلت: ٤٦] من أن ظلامًا للنسبة لا للمبالغة، فنفيه على هذا نفي للظلم من أصله، أي: وما ربك بمنسوب للظلم.