واجب، فترك هذا واجب فيكون حرامًا، وكذا نفله غيره عن أهل الظاهر، لكن صرّح ابن حزم منهم بأن أكلها حلال مع قوله إن الجماعة فرض عين وانفصل عن اللزوم المذكور بأن المنع من أكلها مختص بمن علم بخروج الوقت قبل زوال الرائحة. ونظيره أن صلاة الجماعة فرض عين بشروطها، ومع ذلك تسقط بالسفر وهو في أصله مباح لكن يحرم على مَنْ أنشاه بعد سماع النداء. وقال ابن دقيق العيد أيضًا: قد يستدل بهذا الحديث على أن أكل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة، وقد يقال إن هذا الكلام خرج مخرج الزجر عنها فلا يقتضي ذلك أن يكون عذرًا في تركها إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة. قال: ويبعد هذا من وجه تقريبه إلى بعض أصحابه فإن ذلك ينفي الزجر، ويمكن حمله على حالتين والفرق بينهما أن الزجر وقع في حق من أراد إتيان المسجد، والإذن في التقريب وقع في حالة لم يكن فيها ذلك بل لم يكن المسجد النبوي إذ ذاك، فقد قدمت أن الزجر متأخر عن قصة التقريب بست سنين.
وقال الخطابي: توهم بعضهم أن أكل الثوم عذر في التخلف عن الجماعة، وإنما هو عقوبة لأكله على فعله إذ حُرم فضل الجماعة، وكأنه يخص بما لا سبب للمرء فيه كالمطر مثلًا، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون أكلها حرامًا ولا أن الجماعة فرض عين. ونقل ابن التين عن مالك قال: الفِجل إن كان يظهر ريحه فهو كالثوم وقيده عياض بالجشاء. وفي "الطبراني الصغير" في حديث أبي الزبير التنصيص على ذكر الفِجل في الحديث لكن في إسناده يحيى بن راشد وهو ضعيف، ويلحق بما نص عليه في الحديث كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها، وإنما خص الثوم هنا بالذكر وفي غيره أيضًا بالبصل والكُرّاث لكثرة أكلهم لها، وكذلك ألحق بذلك بعضهم من بفيه بخر أو به جرح له رائحة كريهة، وكذلك القصاب والسمّاك والمجذوم والأبرص. وصرّح بالمجذوم ابن بطال وقد مرّ أن مذهب مالك سقوط الجمعة عنه. وألحق بالحديث كل مَنْ آذى الناس بلسانه في المسجد وبه أفتى ابنِ عمر -رضي الله تعالى عنهما- وهو أصل في نفي كل ما يتأذى به ولا يبعد أن يعذر من كان معذورًا بأكل ما له ريح كريهة لما ووى ابن حِبّان في "صحيحه" عن المغيرة بن شعبة قال: "انتهيتُ إلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فوجدَ مني ريحَ الثومِ فقالَ: مَنْ أكلَ الثومَ؟ قال: فأخذتُ يدَهُ فأدخلتُها فوجدَ صدري معصوبًا فقالَ: إنَّ لكَ عذرًا".
وفي رواية الطبراني في "الأوسط" أَشتكيتُ صدري فأكلته وفيه فلم يعنّفْهُ -صلى الله عليه وسلم- واختلف هل كان أكل ذلك حرامًا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أو لا، والراجح الحل لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وليسَ بمحرمٍ" لما مرّ في حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة. واستدل المهلب بقوله:"فإني أُناجي مَنْ لا تُناجي" على أن الملائكة أفضل من الآدميين، وتحقب بأنه لا يلزم من تفضيل بعض الأفراد على بعض تفضيل الجنس على الجنس. قلت: ليس في الحديث دلالة على التفضيل أصلًا؛ لأن استعمال هذه الأشياء التي لها رائحة كريهة من أوصاف البشرية التي يحتاجون لها، فهم محتاجون للتوسعة عليهم في ذلك والملائكة لا بشرية لهم، ولا حاجة لهم إلى هذه الأشياء فيستعمل معهم الأدب في ترك