المالكية يشترط في صحة الجمعة الاستيطان وهو العزم على الإقامة على نية التأبيد في غير الخيام ولو في الاختصاص، وتكون في جامع مبني بناء معتادًا لأهل ذلك البلد، وإذا تعددت المساجد صحت في العتيق وبطلت في غيره إلا إذا عظم البلد (كمصر) و (بغداد). ويشترط أن يكون في ذلك البلد جماعة يأمن بهم الدفع عن أنفسهم في الأمور الكثيرة لا النادرة، وذلك يختلف بحسب الجهات من كثرة الخوف والفتن وقلتها، وليس للجماعة حدّ محصور من خمسين أو أربعين أو ثلاثين كما قيل بكل، وهذا الشرط هو المعتبر عندهم من غير نظر إلى قرية أو مصر، وكل الأحاديث توافقه ولا ينافيه حديث.
قلت: المطلوب دفعه والأمن منه هو المحاربون قطاع الطريق أو الكفار، وهم الذين يطلب عند أهل الإِسلام دفعهم حقيقة فإذا ملكت الكفار بلدًا من بلاد الإِسلام بعد عجز أهله عنهم، وصاروا مالكين له وهم المدافعون عنه لم يوجد هذا الشرط الذي هو المدار في وجوب الجمعة. عند المالكية فلا تجب في ذلك البلد المملوك للكفار الجارية فيه أحكامهم، فيكون حكمه حكم (مكة) حيث لم يصلِّ فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الجمعة قبل الهجرة؛ لكون الحكم فيها للكفار، وعندما هاجروا للمدينة صلّوها لعدم حكم الكفار كما مرّ في أول الجمعة.
وجؤاثى أهلها عبد القيس ذابون عن أنفسهم يقاتلون من حولهم من الكفار، هذا ما ظهر لي وما ذكره الدسوقي من كونها تصلى في البلاد المحتلة للكفار غير ظاهر.
ومذهب أبي حنيفة لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع أو في مصلى العصر، ولا يجوز في القرى وتجوز في (مني) إذا كان الأمير أمير الحاج أو كان الخليفة مسافرًا، وقال محمد: لا جمعة (بمنى) ولا تصح بعرفات في قولهم جميعًا، واختلف أصحابه في العصر الذي تجوز فيه الجمعة فعن أبي يوسف: هو كل موضع يكون فيه كل محترف، ويوجد فيه جميع ما يحتاج إليه الناس من معائشهم عادة، وبه قاض يقيم الحدود، وأمير كذلك. وقيل: إذا بلغ سكانه عشرة آلاف، وقيل عشرة آلاف مقاتل، وقيل بحيث أن لو قصدهم عدو لأمكنهم دفعه. وقيل: كل موضع فيه منبر وقاضٍ يقيم الحدود، وقيل: أن لو اجتمعوا إلى أكبر مساجدهم لم يسعهم. وقيل: أن يكون بحال يعيش كل محترف بحرفته من سنة من غير أن يشتغل بحرفة أخرى.
وعن محمد موضع مصّره الإِمام فهو مصر حتى أنه لو بعث إلى قرية نائبًا لإقامة الحدود والقصاص يصير مصرًا، فإذا عزله ودعاه تلحق بالقرى. واستدل أبو حنيفة على أنها لا تجوز في القرى بما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن علي -رضي الله تعالى عنه- قال:"لا جمعةَ ولا تشريقَ إلا في مصرٍ جامعٍ" ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن علي أيضًا بلفظ: "لا جمعة ولا تشريق ولا صلاة فطرٍ ولا أضحى إلا في مصرٍ جامعٍ أو مدينة عظيمةٍ". وأجابوا عن قوله في حديث الباب جؤاثى بأنها مدينة كما قاله البكري، وقال امرؤ القيس: