ليس ملكه قبل الجلوس، ولا بعد المفارقة فدل على أن المراد بالحقية في حالة الجلوس الأولوية، فيكون من قام تاركًا له قد سقط حقه جملة، ومَنْ قام ليرجع يكون أولى.
وقد سئل مالك عن حديث أبي هريرة فقال: ما سمعت به، وإنه لحسن إذا كانت أوبته قريبة وأن بعد فلا أرى ذلك له، ولكنه من محاسن الأخلاق. وقال القرطبي في "المفهم": هذا الحديث يدل على صحة القول بوجوب اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه، وما احتج به من حمله على الأدب لكونه ليس ملكًا له لا قبل ولا بعد ليس بحجة؛ لأنا نسلّم أنه غير مالك له لكن يختص به إلى أن يفرغ غرضه منه كأنه ملك منفعته، فلا يزاحمه غيره عليه.
قال النووي: قال أصحابنا: هذا في حق مَنْ جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة مثلًا، ثم فارقه ليعود إليه كإرادة الوضوء مثلًا أو لشغل يسير، ثم يعود لا يبطل اختصاصه به، وله أن يقيم مَنْ خالفه وقعد فيه وعلى القاعد أن يطيعه، واختلف هل يجب عليه؟ على وجهين أصحهما الوجوب. وقيل: يستحب، وهو مذهب مالك. قال أصحابنا: وإنما يكون أحق به في تلك الصلاة دون غيرها.
وقال عياض: اختلف العلماء فيمن اعتاد موضعًا من المسجد للتدريس والفتوى، فحكى عن مالك أنه أحق به إذا عرف به قال: والذي عليه الجمهور أن هذا استحسان وليس بحق واجب، ولعله مراد مالك، وكذا قالوا في مقاعد الباعة من الأفنية والطرق التي هي غير متملكة. قالوا: مَنْ اعتاد الجلوس في شيء منها فهو أحق به حتى يتم غرضه. قال: وحكاه الماوردي عن مالك قطعًا للتنازع. قال القرطبي: الذي عليه الجمهور أنه غير واجب. وقال النووي: استثنى أصحابنا من عموم قوله: "لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه من ألف من المسجد موضعًا يفتي فيه أو يقرىء فيه قرآنًا أو علمًا فله أن يقيم مَنْ سبقه إلى القعود فيه". وفي معناه مَنْ سبق إلى موضع من الشوارع ومقاعد الأسواق لمعاملة ولو قام الجالس باختياره وأجلس غيره، فلا كراهة في جلوس غيره فيه، ولو بعث مَنْ يقعد له في مكان ليقوم عنه إذا جاء هو جاز أيضًا من غير كراهة، ولو فرش له نحو سجادة فلغيره تنحيتها والصلاة مكانها؛ لأن السبق بالأجسام لا بما يفرش، ولا يجوز له الجلوس عليها بغير رضاه نعم لا يرفعها بيده أو غيرها لئلا تدخل في ضمانه.
قال النووي: وأما ما نسب إلى ابن عمر فهو ورع منه وليس قعوده فيه حرامًا إذا كان ذلك برضى الذي قام لكنه تورع منه لاحتمال أن يكون الذي قام لأجله استحيى منه، فقام عن غير طيب نفسه فسد الباب ليسلم من هذا أو رأى أن الإِيثار بالقرب مكروه أو خلاف الأولى، فكان يمتنع لأجل ذلك لئلا يرتكب أحد ذلك بسببه. قال علماؤنا: وإنما يحمد الإِيثار بحظوظ النفس وأُمر الدنيا.
وقال ابن أبي جمرة: هذا اللفظ عام في المجالس، ولكنه مخصوص بالمجالس المباحة إما على العموم كالمساجد ومجالس الحكام والعلم، وإما على الخصوص كمن يدعو قومًا بأعيانهم