أضعاف مَنْ يوجد من قبيلتي الأوس والخزرج ممن يتحقق نسبه، وقسْ على ذلك ولا التفات إلى كثرة مَنْ يدعي أنه منهم بغير برهان، وفي رواية "المناقب" حتى يكونوا كالملح في الطعام وفي "علامات النبوءة" بمنزلة الملح في الطعام أي في القلة؛ لأنه جعل غاية قلتهم الانتهاء إلى ذلك والملح بالنسبة إلى جملة الطعام جزء يسير منه والمراد بذلك المعتدل.
وقوله:"فاستطاع أن يضر فيه أحدًا أو ينفع فيه أحدًا" قيل فيه إشارة إلى أن الخلافة لا تكون في الأنصار؛ لأن مَنْ فيهم الخلافة يوصون ولا يوصى بهم. قال في "الفتح": ليس صريحًا في ذلك إذ لا تمتنع التوصية على تقدير أن يقع الجور ولا التوصية للمتبوع سواء كان منهم أو من غيرهم.
وقوله:"ويتجاوز عن مسيئهم" أي: في غير الحدود وحقوق الناس وفي حديث أنس في "المناقب" زيادة "أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم". وقوله:"كرشي وعيبتي" أي: بطانتي وخاصتي. قال القزاز: ضرب المثل بالكرش؛ لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون فيه نماؤه، ويقال لفلان كرش منثورة أي عيال كثيرة. والعيبة بفتح المهملة وسكون المثناة التحتية بعدها موحدة ما يخرز فيه الرجل أنفس ما عنده، يريد أنهم موضع سره وأمانته قال ابن دريد: هذا من كلامه -صلى الله عليه وسلم- الموجز الذي لم يسبق إليه.
قال غيره ة الكرش بمنزلة المعدة للإنسان والعيبة مستودع الثياب، والأول أمر باطن والثاني أمر ظاهر فكأنه ضرب المثل بهما في إرادة اختصاصهم بأموره الظاهرة والباطنة. والأول أولى وكل من الأمرين مستودع لما يخفى فيه.
قلت: لم يظهر لي فرق بين التفسيرين حتى يكون الأول أولى.
وقوله:"وقد قضوا الذي عليهم" إلخ يشير به إلى ما وقع لهم ليلة العقبة من المبايعة فإنهم بايعوا على أن يؤووا النبي -صلى الله عليه وسلم- وينصروه على أن لهم الجنة، فوفوا بذلك. وفي الحديث الإخبار بالغيب؛ لأن الناس كثروا وقلت الأنصار، فهو من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وإخباره بالمغيبات، وفيه من جوامع الكلم أن الحال منحصر في الضر والنفع والمحسن والمسيء، وفي الحديث مما لم يذكره عن عائشة في قصة الإفك وعن أبي سفيان في الكتاب إلى هرقل متفق عليها، وعن جابر قال:"كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب أحمرّت عيناه وعلا صوته" الحديث وفيه فيقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله تعالى" أخرجه مسلم وفي رواية له عنه "كانت خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته" فذكر الحديث. وفيه يقول:"أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله تعالى" وهذا أليق بمراد المصنف للتنصيص فيه على الجمعة لكنه ليس على شرطه كما تقدم ويستفاد من هذه الأحاديث أن "أما بعد" لا تختص بالخطب بل تقال أيضًا في صدور الرسائل والمصنفات، ولا اقتصار عليها في إرادة الفصل بين الكلامين، بل ورد في القرآن في ذلك لفظ هذا، وإن وقد كثر استعمال المصنفين لها