وهذه الأحاديث وكثير مثلها ترد على من قال لا ترفع اليدان في الدعاء أصلًا إلا في الاستسقاء، وتمسك بحديث أنس "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء" وهو صحيح أخرجه البخاري وغيره، لكن يجمع بينه وبين الأحاديث المذكورة وما في معناها بأن المنفي صفة خاصة لا أصل الرفع، وحاصله أن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره، إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في الاستسقاء حذو الوجه مثلًا. وفي الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يعكر على ذلك أنه ثبت في كل منهما حتى يرى بياض إبطيه، بل يجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره. ويؤيد هذا أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد به مدّ اليدين وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذتاه.
وإما في صفة اليدين في ذلك بأن تكون الكفان في الاستسقاء تليان الأرض، وفي الدعاء تليان السماء لما رواه مسلم عن ثابت عن أنس:"أن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- استسقى فأشارَ بظهر كفيهِ إلى السماءِ".
ولأبي داود من حديث أنس "كان يستسقي هكذا ومدّ يديه، وجعلَ بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيتُ بياضَ إبطيه".
قال النووي: قال العلماء: السُّنة في كل دعاء لرفع البلاء أن يرفع يديه جاعلًا ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء أن يجعل كفيه إلى السماء. وقال غيره الحكمة في الإِشارة بظهور الكفين في الاستسقاء دون غيره للتفاؤل بتقلب الحال ظهرًا لبطن، كما قيل في تحويل الرداء، وقيل هو إشارة إلى صفة المسؤول وهو نزول السحاب إلى الأرض، أو يحمل حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره. قال المنذري وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك. وأما ما أخرجه مسلم عن عمارة بن رويبة براء وموحدة مصغر أنه رأى بشر بن مروان يرفع يديه فأنكر ذلك وقال:"لقد رأيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وما يزيدُ على هذا يشيرُ بالسبابة".
فقد حكى الطبري عن بعض السلف أنه أخذ بظاهره، وقال: السنة أن الداعي يشير بإصبع واحدة، ورده بأنه إنما ورد في الخطيب حال الخطبة وهو ظاهر في سياق الحديث، فلا معنى للتمسك به في منع رفع اليدين في الدعاء مع ثبوت الأخبار بمشروعيتها. قال الطبري: وكره رفع اليدين في الدعاء ابن عمر وجبير بن مطعم، ورأى شريح رجلًا يرفع يديه داعيًا فقال: من تتناول بهما لا أم لك. وساق الطبري ذلك بأسانيده عنهم.
وذكر ابن التين: أنه نقل عن مالك أن رفع اليدين في الدعاء ليس من أمر الفقهاء قال: وقال في "المدونة": ويختص الرفع بالاستسقاء ويجعل بطونهما إلى الأرض. وأما ما نقله الطبري عن