لَيُعذَّبونَ في قُبورهم عذابًا تَسْمَعه البهائم". وهو محمول على أن إحداهما تكلمت وأقرتها الأخرى على ذلك، فنسبت القول إليها مجازًا، والإفراد يحمل على المتكلمة، ولم تسم واحدة منهما. وفي هذا دلالة على أن اليهودية كانت تعلم عذاب القبر. إمّا سمعت من التوراة، أو من كتاب من كتبهم.
وقوله: "عائذًا بالله من ذلك" هو منصوب على المصدر الذي يجيء على مثال فاعل كقولهم: عافاه الله عافية أو على الحال الموكدة النائبة مناب المصدر، والعامل فيه محذوف كأنه قال: أعوذ بالله عائذًا ولم يذكر الفعل؛ لأن الحائل نائبة عنه. وروي بالرفع. أي: أنا عائِذٌ، وكان هذا قبل أن يطلع النبي -صلى الله عليه وسلم- على عذاب القبر، وفي هذا الحديث في الجنائز فقال: نعم عذاب القبر، وعند مسلم عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: دخلت عَليَّ امرأةً من اليهود وهي تقول هل شعرت أنكم تفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "إنما يُفتنُ اليهود" قالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل شعرت أنه أُوحيَ إليَّ أنكم تُفتنون في القبور؟ ". قالت عائشة: فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ من عذاب القبر.
وروى أحمد بإسناد على شرط البخاري عن عائشة أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة إليها شيئًا من المعروف إلاَّ قالت اليهودية: وقال الله عذاب القبر. قالت: فقلت: يا رسول الله هل للقبر عذاب؟ قال: "كذبت يهود لا عذاب دون يوم القيامة" ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار، وهو ينادي بأعلى صوته: "أيها النَّاس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق".
وبين الروايات مخالفة، ففي ظاهر روايتها الآتية في الجنائز، وصريح روايتيها السابقتين عن مسروق أنه أقر اليهودية وصدّقها، وفي رواية أحمد ورواية ابن شهاب عند مسلم، وظاهر رواية "الباب" أنه أنكر على اليهودية. قال النووي تبعًا للطحاوي هما قصتان فأنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- قول اليهودية في القصة الأولى ثم أُعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، ولم يُعلم عائشة، فجاءت اليهودية مرة أخرى فذكرت لها ذلك، فأنكرت عليها ذلك مستندة إلى الإنكار الأول فأعلمها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الوحي نزل بإثباته.
وقال الكرماني: يحتمل أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ سرًا فلما رأى استغراب عائشة حين سمعت ذلك من اليهودية أعلن به. وكأنه لم يقف على رواية الزهري المارة عند مسلم، ورواية أحمد المتقدمة أيضًا. وفيما مرَّ من الأحاديث دلالة على أنه -عليه الصلاة والسلام- إنما علم بحكم عذاب القبر إذْ هو بالمدينة في آخر الأمر كما علم من تاريخ صلاة الكسوف المار أنه يوم موت إبراهيم عليه السلام وقد استشكل ذلك بآية:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} إلخ، وآية:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} الدالتان على عذاب القبر فإنهما مكيتان. والجواب: أن عذاب القبر إنما يؤخذ من الأولى بطريق المفهوم في حق من لم يتصف بالإيمان، وكذلك بالمنطوق في الأخرى