للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذي تقام فيه القيامة، يريد أنها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم. وقد مرّ الكلام عليها في حديث سؤال جبريل. وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لابد من كونها، وأنها مما يجب أن يُصَدَّق بها، وتكرار لفظ حق للمبالغة في التأكيد، وتكرير الحمد للاهتمام بشأنه، وليناط به كل مرة معنى آخر. وفي تقدم الجار والمجرور إفادة التخصيص. وكأنه عليه الصلاة والسلام لما خَصَّ الحمد بالله قيل: لِمَ خصصتني بالحمد؟ قال: لأنك أنت الذي تقوم بحفظ المخلوقات، إلى غير ذلك، وإنما عرف الحق في قوله: "أنت الحق، ووعدك الحق" ونكر البواقي للحصر؛ لأن الله هو الحق الثابت الدائم الباقي، وما سواه في معرض الزوال. قال لبيد:

طويل

ألا كُلُّ شيء ما خلا الله باطلُ ... وكلُّ نعيم، لا محالَةَ، زائل

وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره. قال السّهيليُّ: التعريف للدلالة على أنه المستحق لهذا الاسم بالحقيقة، إذ هو مقتضى هذه الأداة، وكذا في وعدك الحق؛ لأن وعده كلامه، ونكرت في البواقي لأنها أُمور محدَثَة، والمُحْدَثُ لابجب له البقاء من جهة ذاته، وبقاء ما يدوم منه علم بالخبر الصادق لا من جهة استحالة فنائه. وتَعَقَّبه في المصابيح بأنه يرد عليه قوله في هذا الحديث. وقولك: "حق" مع أن قوله كلامه القديم، فينظر وجهه.

وقوله: "اللهم لك أسلمت" أي انقَدْتُ، وخضعتُ لأمرك ونهيك، واستسلمت لجميع ما أمرت به، ونهيت، لما رجع -صلى الله عليه وسلم- إلى مقام العبودية، ونظر إلى افتقار نفسه، نادى بلسان الاضطرار في مطاوي الانكسار فقال: "اللهم لك أسلمت ... " إلخ. وقوله: "وبك آمنت" أي: صدَّقْت بك، وبما أنزلت من أخبار وأمر ونهي. وظاهره أن الإيمان والإسلام متغايران، وقد مرّ تحقيق ذلك في أوّل كتاب الإيمان، وفي حديث سؤال جبريل.

وقوله: "وعليك توكلت" أي: فوّضت أمري إليك قاطعًا النظر عن الأسباب العادية. ويقال: أي: تبرأت من الحول والقوة، وصغت أمري إليك، وأيقنت أنه لن يصيبني إلاّ ما كتب لي أو عَلَيّ، ففوضت أمري إليك، ونِعْم المفوَّض إليه، والوكيل الكافي. وقوله: "وإليك أنبَتُ" أي: رجعت إليك في تدبير أمري، والنيابة الرجوع، أي: رجعت ذليلًا مقبلًا بالقلب عليك، ومعناه رجعت إلى عبادتك. وقوله: "وبك خاصمت" أي: وبما أعطيتني من البرهان، ولقنتني من الحجة خاصمت المعاند، وقمعته بالحجة والسيف.

وقوله: "وإليك حاكمت" أي: كل مَنْ جحد الحق حاكمته إليك، وجعلتك الحاكم بيننا، لا ما كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه. والمحاكمة رفع القضية إلى الحاكم، وقدم مجموع صلاة هذه الأفعال عليها إشعارًا بالتخصيص، وإفادة للحصر. وقوله: "فاغفر لي" قال: وذلك مع كونه مغفورًا له، إما على سبيل التواضع والهضْم لنفسه، وإجلالًا وتعظيمًا لربه، أو على سبيل

<<  <  ج: ص:  >  >>