للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما ما أخرجه البيهقيّ في "الشّعب" عن ابن عمر قال: اجتمع اليهود والمسلمون، فعطس النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فشمته الفريقان جميعًا، فقال للمسلمين: "يغفر الله لكم، ويرحمنا وإياكم" وقال لليهود: يهديكم الله ويصلح بالكم". فقال: تفرد به عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد عن أبيه عن نافع، وعبد الله ضعيف، واحتج بعضهم بأن الجواب المذكور مذهب الخوارج، لأنهم لا يرون الاستغفار للمسلمين. وهذا منقول عن إبراهيم النخعيّ، وكل هذا لا حجة فيه بعد ثبوت الخبر بالأمر.

قال البخاريَّ: بعد تخريجه في "الأدب المفرد": وهذا أثبت ما يروى في هذا الباب. وقال الطبريّ: هو من أثبت الأخبار، وقال البيهقيّ: هو أصح شيء ورد في هذا الباب. وقد أخذ به الطحاويّ من الحنفية، واحتج له بقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} قال: والذي يجيب بقوله: "غفر الله لنا ولكم" لا يزيد المشمت على معنى قوله: "يرحمك الله" لأنّ المغفرة ستر الذنب، والرحمة ترك المعاقبة عليه، بخلاف دعائه له بالهداية والإصلاح، فإن معناه أن يكون سالمًا من مواقعة الذنب، صالح الحال، فهو فوق الأول فيكون أولى.

واختار ابن أبي جمرة أن يجمع المجيب بين اللفظين، فيكون أجمع للخير، ويخرج من الخلاف، ورجحه ابن دقيق العيد، وقد أخرج مالك في الموطأ، عن ابن عمر، أنه كان إذا عطس فقيل له يرحمك الله. قال: "يرحمنا الله وإياكم، يغفر الله لنا ولكم". وقال ابن أبي جمرة: في الحديث دليل على عظيم نعمة الله على العاطس، يؤخذ ذلك مما رتب عليه من الخير، وفيه إشارة إلى عظيم فضل الله على عبده، فإنه أذهب عنه الضرر بنعمة العطاس، ثم شرع له الحمد الذي يثاب عليه، ثم الدعاء بالخير بعد الدعاء بالخير، وشرع النعم المتواليات في زمن يسير فضلًا وإحسانًا.

وفي هذا لمن رآه بقلب، له بصيرة، زيادة قوة في إيمانه، حتى يحصل له من ذلك ما لا يحصل بعبادة أيام عديدة، ويداخله من حب الله الذي أنعم عليه بذلك، ما لم يكن في باله، ومن حب الرسول، الذي جاءت معرفة هذا الخير على يده، والعلم الذي جاءت به سنته، ما لا يقدر قدره.

قال: وفي زيادة "ذرة من هذا ما يفوق الكثير مما عداه من الأعمال، ولله الحمد كثيرًا"، وقال الحليميّ: أنواع البلاء والآفات كلها مؤاخذات، وإنما المؤاخذة عن ذنب، فإذا حصل الذنب مغفورًا، وأدركت العبد الرحمة لم تقع المؤاخذة، فإذا قيل للعاطس: يرحمك الله، فمعناه جعل الله لك ذلك، لتدوم السلامة. وفيه إشارة إلى تنبيه العاطس على طلب الرحمة، والتوبة من الذنب، ومن ثم شرع له الجواب بقوله: غفر الله لنا ولكم.

وقد خص من عموم الأمر بتشميت العاطس جماعةٌ:

<<  <  ج: ص:  >  >>