أذن له لاختصينا" وروى ابن شاهين والبيهقيّ في "الشعب" عن عثمان قال: "قلت يا رسول الله، إني رجل تشق علي الغُربة، فتأذن لي في الخصي فأختصي؟ فقال: لا، ولكن عليك يا ابن مظعون بالصوم".
قال أبو عمر: كان عابدًا مجتهدًا من فضلاء الصحابة، وقد كان هو وأبو ذر وعلي بن أبي طالب هَمَّوا أن يختصوا ويتبتلوا، فنهاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فنزلت فيهم {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية. لم يختلف في كونه شهد بدرًا وكان ممن حرَّم الخمر في الجاهلية. وقال لا أشرب شربًا يُذْهِبُ عقلي ويُضْحِك بي من هو أدنى مني، ويحملني على أن أنكح كريمتي.
وروى الترمذيّ عن عائشة قالت: "قبَّل النبي -صلى الله عليه وسلم- عثمان بن مظعون وهو ميت، وهو يبكي وعيناه تذرفان". وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة، وأول من دفن بالبقيع، ولما توفي قال النبي عليه الصلاة والسلام: "نعم السَّلَفُ هو لنا عثمان بن مظعون". كان موته سنة اثنتين من الهجرة، وقيل بعد اثنين وعشرين شهرًا من مقدمه -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة. وقيل: مات على رأس ثلاثين شهرًا من الهجرة، بعد شهوده بدرًا. وأول من تبعه إبراهيم ابن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولما مات قال عليه الصلاة والسلام: "إلحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون" وقيل إنه قال ذلك حين توفيت ابنته زينب، وأعْلَمَ -صلى الله عليه وسلم- قَبره بحجر، وقال: هذا قَبْرُ فَرَطِنا ندفن إليه من مات منّا، وكان يزوره.
وروى ابن عبد البر، بسنده عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، دخل على عثمان بن مظعون حين مات، فانكبَّ عليه، فكأنهم رأوا أثر البكاء في عينيه، ثم جثا الثانية، ثم رفع رأسه، فرأوه يبكي، ثم جثا الثالثة ثم رفع رأسه وله شهيق، فعرفوا أنه يبكي، فبكى القوم، فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنما هذا من الشيطان" ثم قال: "استغفر الله، أشهد عليك أبا السائب، لقد خرجت منها ولم تلتبس منها بشيء". ولما بكت النساء جعل عمر يُسَكِّتُهنّ، فقال عليه الصلاة والسلام: "مهلًا يا عمر" ثم قال: "إياكن ونعيق الشيطان، فمهما كان من العين فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد فمن الشيطان". ورثته إمرأته فقالت:
يا عينُ جُودي بدمعٍ غير ممنونَ ... على رَزِيّةِ عثمانَ بن مَظعونِ
على امرىء بأن في رضوانِ خَالقِهِ ... طُوبى لهُ من فقيدِ الشخصِ مَدفونِ
طابَ البقيعُ له سُكنى ومَرقَدُهُ ... قد أشرقت إضَمٌ من بعد تفنين
وأورث القلبَ حزنًا لا انقطاعَ لَهُ ... حتى المماتِ فما تَرقى لَه شونِ