للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعي، وأحمد وجمهور السلف، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه.

قال الشافعيّ: الصلاة على الميت دعاء له، وهو إذا كان ملففًا يصلي عليه، فكيف لا يدعى له وهو غائب، أو في القبر بذلك الوجه الذي يدعى به وهو ملفف؟ وعن المالكية والحنفية: لا يشرع ذلك، وعن بعض أهل العلم إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه الميت، أو ما قرب منه، لا ما إذا طالت المدة، حكاه ابن عبد البر. وقال ابن حِبّان: إنما يجوز ذلك لمن كان في جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلًا لم يجز. قال المحب الطبريّ: لم أر ذلك لغيره، وحجته حجة الذي قبله من قصة النجاشيّ.

واعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشيّ، بأمور، منها أنه كان بأرض لم يصلِّ عليه بها أحد، فتعينت الصلاة عليه لذلك، ومن ثم قال الخطابيّ: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرضٍ ليس بها من يصلي عليه، واستحسنه الرويانيّ من الشافعية، وبه ترجم أبو داود في السنن الصلاةَ على المسلم يليه أهل الشرك ببلد آخر. وهذا محتمل. قال في الفتح: إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار على أنه لم يصلِّ عليه في بلده أحد، قلت: كذلك لم يقف على أنه صلى عليه أحد، وبلاده بلاد كفر، ولا يعلمون حكم الصلاة على الجنازة، ولا كيفيتها، فكيف نظن بهم الصلاة على النجاشيّ؟ فلا حاجة للإِخبار بذلك، ولا احتمال فيه.

ومن ذلك قول بعضهم: كُشِف له عنه -صلى الله عليه وسلم- حتى رآه، فتكون صلاته عليه، كصلاة الإِمام علي ميت رآه ولم يره المأمومون، ولا خلاف في جوازها. قال ابن دقيق العيد: هذا يحتاج إلى نقل، ولا يثبت بالاحتمال، وتعقبه بعض الحنفية بأن الاحتمال كاف في مثل هذا من جهة المانع، وكان مستند هذا القائل ما ذكره الواقديّ في أسبابه، بغير إسناد عن ابن عباس، قال: كُشِف للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن سرير النجاشيّ حتى رآه، وصلى عليه. ولابن حِبّان عن عِمران بن حصين "فقام، وصفوا خلفه، وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه". ولأبي عوانة عن يحيى "فصلينا خلفه، ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا".

ومن الاعتذارات أن ذلك خاص بالنجاشيّ، لأنه لم يثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى على ميت غائب غيره، ولم يفعل ذلك بعده أحد من أصحابه، ولا صلى أحد على النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن ووري. وفي الصلاة عليه أعظمُ رغبة، فدل هذا كله على الخصوص، وقد صلى على غائب واحد، ثبت أنه طويت له الأرض حتى حضره، وهو مُعاوية بن مُعاوية المُزَنيّ. ففي "الأوسط" للطبرانيّ وكتاب "مسند الشاميين" عن أبي أُمامة قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتبوك، فنزل عليه جبريل، عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله، إن معاوية بن معاوية المزنيّ مات بالمدينة،

<<  <  ج: ص:  >  >>