السهول وفي الحزون، في الحجاز وفي غيره، ويستفاد من الحديث أنه إذا لم يوجد ساترٌ البتة، أنه يغطى جميعه بالإِذْخِر، فإن لم يوجد فبما تيسر من نبات الأرض. ويأتي في كتاب الحج، وقد مرَّ في كتاب العلم قول العباس "الإِذْخِر، فإنه لبيوتنا وقبورنا" فكأنها كانت عادة استعماله في القبور.
قال المهلب: وإنما استحب لهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- التكفين في تلك الثياب التي ليست مسابغة، لكونهم قتلوا فيها، ويحتمل أنه لم يجد لهم غيرها، وهو الموافق للترجمة، واستشكل قوله:"لم يأكل من أجره شيئًا"، مع ما تقدم من تفسير ابتغاء وجه الله. يجمع بأن إطلاق الأجر على المال في الدنيا بطريق المجاز بالنسبة لثواب الآخرة، وذلك أن القصد الأول هو ما تقدم.
لكن منهم من مات قبل الفتوح، كمصعب بن عمير، ومنهم من عاش إلى أن فتح عليهم، ثم انقسموا، فمنهم من أعرض عنه وواسى به المحاويج، أولًا فأولًا، بحيث بقي على تلك الحالة الأُولى، وهم قليل، ومنهم أبو ذَرٍّ، وهؤلاء ملتحقون بالقسم الأول .. ومنهم تبسط في بعض المباح، فيما يتعلق بكثرة النساء والسراري، أو الخدم والملابس ونحو ذلك، ولم يستكثر، وهم كثير، ومنهم ابن عمر، ومنهم من زاد فاستكثر بالتجارة وغيرها مع القيام بالحقوق الواجبة والمندوبة، وهم كثير أيضًا، منهم عبد الرحمن بن عوف.
وإلى هذين القسمين أشار خَبّاب، فالقسم الأول، ومن التحق به، توفر له أجره في الآخرة، والقسم الثاني مقتضى الخبر إنه يحسب عليهم ما وصل إليهم من مال الدنيا من ثوابهم في الآخرة، ويؤيده ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمر، ورفعه "ما من غازية تغزو فتغنم، وتَسْلَم، إلا تعجَّلوا ثلثي أجرهم" الحديث ومن ثم آثر كثيرٌ من السلف قلة المال، وقنعوا به إما ليتوفر لهم ثوابهم في الآخرة، وإما ليكون أقل لحسابهم عليه.
قال ابن بطال: في الحديث ما كان عليه السلف من الصدق في وصف أحوالهم، وفيه أن الصبر على مكابدة الفقر وصعوبته من منازل الأبرار، وفيه أن الكفن يكون ساترًا لجميع البدن، وأن الميت يصير كله عورة، ويحتمل أن يكون ذلك بطريق الكمال.
قلت: قد مرَّ ما فيه من الخلاف، هل الواجب ثوب يستر أو الواجب ما يستر العورة؟ في باب الكفن في ثوبين. ثم قال ابن بطّال: ليس في حديث خَبّاب تفضيل الفقير على الغني، وإنما فيه أن هجرتهم لم تكن لدنيا يصيبونها, ولا نعمة يتعجلونها، وإنما كانت لله خالصة، لِيُثَيبهم عليها في الآخرة، فمن مات قبل فتح البلاد تَوَفّر له ثوابه، ومن بقي حتى نال من طيبات الدنيا خشي أن يكون عجل لهم أجر طاعتهم، وكانوا على نعيم الآخرة أحرص.