فيا عباد الله، لا تعذبوا موتاكم" وهذا طرف من حديث طويل، حسن الإسناد، وأخرجه ابن خَيْثمة وابن أبي شيبة والطبرانيّ وغيرهم. وأخرج أبو داود والترمذيّ أطرافًا منه.
قال الطبريّ: ويؤيده ما قاله أبو هريرة، أن أعمال العباد تعرض على أقربائهم من موتاهم، ثم ساقه بإسناد صحيح، وشاهده حديث النعمان بن بشير مرفوعًا، أخرجه البخاري في تاريخه، وصححه الحاكم. قال ابن المرابط: حديث قَيْلة نصٌّ في المسألة، فلا يعدل عنه، واعترضه ابن رشيد بأنه ليس نصًا في المسألة، وإنما هو محتمل، فإن قوله "فيستعبر إليه صويحبه" ليس نصًا في أن المراد به الميت، بل يحتمل أن يراد به صاحبه الحي، وأن الميت يعذب حينئذ ببكاء الجماعة عليه.
ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات، فينزل على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلًا: من كان طريقته النوح، فمشى أهله على طريقته، أو بالغ فأوصاهم بذلك، عذب بصنيعه، ومن كان ظالمًا فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به، ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضيًا بذلك التحق بالأول، وإن كان غير راضٍ عُذّب بالتوبيخ كيف أهمل النهي، ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه وفعلوا ذلك، كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره، وإقدامهم على معصية ربهم.
وحكى الكرمانيّ تفصيلًا آخر وحسّنه، وهو التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة، فيحمل قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} على يوم القيامة، وهذا الحديث وما اشبهه على البرزخ، ويؤيد ذلك أن مثل ذلك، يقع في الدنيا، والإِشارة إليه بقوله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب، فكذلك يمكن أن يكون الحال في البرزخ بخلاف يوم القيامة. قلت: هذا نحو ما مرَّ عنه في تأويل سكوت ابن عمر عن ابن عباس.
سابعها أن بعضهم حمل تعذيب الميت بالبكاء عليه على ظاهره، وهو بيِّنٌ من قصة عمر مع صهيب المذكورة في هذا الحديث، ويحتمل أن يكون عمر كان يرى أن المؤاخذة تقع على الميت إذا كان قادرًا على النهيّ، ولم يقع منه، فلذلك بادر إلى صهيب، وكذلك نهى حفصة، كما رواه مسلم عن ابن عمر عنه. وممن أخذ بظاهره ابن عمرو، فروى عبد الرزاق أنه حضر جنازة رافع بن خَديج، فقال لأهله: إن رافعًا شيخ كبير لا طاقة له بالعذاب، وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. ويقابل قول هؤلاء قول من رد هذا الحديث، وعارضه بقوله تعالى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
وممن روى عنه الإنكار مطلقًا أبو هريرة، كما روى أبو يعلى عن بكر بن عبد الله المُزَنيّ قال: