للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتلا هذه الآية {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}.

وأما تصور البكاء من الميت فقد ورد في حديثٍ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ أحدكم إذا بكى استعْبَر له صُوَيحبه" والمراد بصويحبه الميت، ومعنى استعبر، إما على بابه، للطلب، بمعنى طلب نزول العَبرات، وإما بمعنى نزلت العبرات. وباب الاستفعال يَرِد على غير بابه.

ويحتمل أن يكون المراد بالحيّ القبيلة، وتكون اللام فيه بدل الضمير، والتقدير: يعذب ببكاء حيّه، أي: قبيلته، فيوافق قوله في الرواية الأخرى "ببكاء أهله". وفي هذه الرواية "ببكاء الحي" وفي رواية مسلم المذكورة "من يبكى عليه يعذب" ولفظها أَتَمّ، وفيه دلالة على أن الحكم ليس خاصًا بأهله، فقوله في الرواية الماضية "ببكاء أهله" خرج مخرج الغالب الشائع، إذ المعروف أنه إنما يبكي على الميت أهلُه، فيكون الحكم عامًا، سواءًا كان من أهله أم لا, لأن الظاهر جَرَيان حكم العموم، وأنه لا يختص ذلك بأهله، بناء على قول من ذهب إلى أن الميت يعذب بالبكاء عليه، وإنما كان الحكم عامًا، ولم يحمل المطلق على المقيد, لأنه لا فرق في الحكم، عند القائلين بعذاب الميت بالبكاء، بين أن يكون الباكي عليه من أهله أو من غيرهم، بدليل النائحة التي ليست من أهل الميت، وما ورد في عموم النائحة من العذاب، بل أهله أعذر في البكاء عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام، في حديث أبي هريرة عند النَّسَائي وابن ماجه قال: مات ميت في آل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فاجتمع النساء يبكين عليه، فقام عمر ينهاهنَّ ويطردهنَّ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعْهُنَّ يا عمر، فإن العين دامعةً والقلب مُصاب، والعهد قريب".

فهذا التعليل الذي رخص لأجله في البكاء خاص بأهل الميت، وفي حديث مسلم المار دلالة علي أن الحكم ليس خاصًا بالكافر، وعلى أن صهيبًا أحد من سمع هذا الحديث من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكأنّه نسيه حتى ذكَّره عمر به، وزاد فيه عبد الملك بن عمير عن أبي بُردة: فذكرت ذلك لموسى بن طلحة، فقال: كانت عائشة تقول: إنما كان أولئك اليهود. أخرجه مسلم.

قال الزين بن المنير: أنكر عمر على صُهيب بكاءه لرفع صوته، بقوله: واأخاه، ففهم منه أن إظهاره لذلك قبل موت عمر، يشعر باستصحابه ذلك بعد موته، أو زيادته فابتدره بالإنكار لذلك. وقال ابن بطّال: إنْ قيل كيف نهى صهيبًا عنه وأقر نساء بني المغيرة على البكاء على خالد، كما يأتي في الباب الذي يليه؟ فالجواب أنه خشي أن يكون رفعه لصوته من باب ما نهى عنه، ولهذا قال في قصة خالد "ما لم يكن نقْعٌ أو لَقْلَقة".

وفي حديث ابن عمر هنا "الميت يعذب ببكاء أهله عليه" وفي بعض طرقه في مصنف ابن أبي شَيبة "من نِيْحَ عليه فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة"، فالأُولى عامة في البكاء، والثانية خاصة

<<  <  ج: ص:  >  >>