قال عياض: ولا وجه له هنا، وتعقب بأنه له وجهًا، ولكن الأول أليق لموافقته لمعنى العناء الذي هو رواية الأكثر. قال النوويّ: مرادها أن الرجل قاصر عن القيام بما أمر به من الإنكار والتأديب، ومع ذلك لم يفصح بعجزه عن ذلك، ليرسل غيره فيستريح من التعب.
وفي هذا الحديث من الفوائد أيضًا جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار، وجواز نظر النساء المتحجبات إلى الرجال الأجانب، وتأديب من نهي عما لا يبتغي فعله إذا لم ينته، وجواز اليمين لتأكيد الخبر، واختلف في المستحق لاسم الصبر، فقال بعضهم: المستحق لاسم الصبر هو الذي يكون في حاله مثلها قبلها, ولا يظهر عليه حزن في جارحة ولا لسان، كما زعت الصوفية أن الولي لا تتم له الولاية إلا إذا تم له الرضى بالقدر، ولا يحزن على شيء، والناس في هذا الحال مختلفون، فمنهم من في قلبه الجلد وقلة المبالاة بالمصائب، ومنهم من هو بخلاف ذلك، فالذي يكون طبعه الجزع ويملك نفسه ويستعر الصبر أعظم أجرًا من الذي يتجلد طبيعة.
قال الطبريّ كما روي عن ابن مسعود: أنه لما نُعي أخوه عتبة قال: لقد كان من أعز الناس عليّ، وما يسرني أنه بين أظهركم اليوم حيًا، قالوا: كيف وهو أعز الناس عليك؟ قال: إنني لأُوجر فيه أحب إليّ من أن يؤجر فيّ، وقال ثابت: إن الصلت بن أشْيم مات أخوه. فجاء رجل وهو يطعم، فقال: يا أبا الصهباء، إن أخاك مات، قال: هلمَّ فكل، قد نُعي إلينا فكل. قال: والله ما سبقني إليك من نعاه، قال: يقول الله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}.
وقال الشعبيّ: كان شُريح، رضي الله تعالى عنه، يدفن جنائزه ليلًا، فيغتنم ذلك، فيأتيه الرجل حين يصبح، فسأله عن المريض، فيقول هذا: لله الحمد والشكر، وأرجو أن يكون مستريحًا، وكان ابن سيرين يكون عند المصيبة كما قبلها، يتحدث ويضحك إلا يوم ماتت أخته حفصة، فإنه جعل يكشر، وأنت تعرف في وجهه.
وسئل ربيعة: ما منتهى الصبر؟ قال: أن يكون يومَ تصيبه المصيبة مثلَه قبل أن تصيبه، وأما جزع القلب وحُزن النفس ودمع العين، فإن ذلك لا يخرج العبد عن معاني الصابرين، إذا لم يتجاوزه إلى ما لا يجوز فعله, لأن نفوس بني آدم مجبولة على الجزع من المصائب، وقد مدح الله الصابرين، ووعدهم جزيل الثواب عليه، وتغيير الأجساد عن هيئاتها، ونقلها عن طباعها التي جبلت عليها, لا يقدر عليه إلا الذي أنشأها.
وروى المقْبَريّ عن أبي هريرة مرفوعًا قال: قال الله تعالى "إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عُوّاده أنشطته من عقالي، وبدَّلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ويستأنف العمل" وقد مرَّ عند الترجمة أن الأفضل ما كان يفعله عليه الصلاة والسلام من عدم الإفراط في