وقال الشعبيّ والنخعيّ: يكره القعود قبل أن توضع، وقال بعض السلف: يجب القيام، واحتج له برواية سعيد عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: ما رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهد جنازة قطُّ فجلس حتى توضع. أخرجه النَّسائيّ.
ومذهب مالك كراهة القيام لها، سواء من كان جالسًا فمرت به فقام لها، أو كان ماشيًا معها واستمر قائمًا حتى توضع، أو سبقها للمقبرة فقام حين رآها حتى توضع. وذهب الشافعيّ إلى أنه غير واجب، فقال: هذا إما أن يكن منسوخًا أو يكون قام لعلة، وأيهما كان فقد ثبت أنه تركه بعد فعله، والحجة في الآخر من أمره، والقعود أحب إليّ.
وأشار بالترك إلى حديث عليّ أنه عليه الصلاة والسلام قام للجنازة ثم قعد. أخرجه مسلم. قال البيضاويّ: يحتمل قول علي "ثم قعد" أي: بعد أن جاوزته، وبعدت عنه، ويحتمل أن يريد: كان يقوم في وقت ثم ترك القيام أصلًا، وعلى هذا يكون فعله الأخير قرينة في أن المرادَ بالأمر الوارد في ذلك الندبُ. ويحتمل أن يكون نسخًا للوجوب المستفاد من ظاهر الأمر، والأول أرجح, لأن احتمال المجاز في الأمر أوْلى من دعوى النسخ.
والاحتمال الأول يدفعه ما رواه البيهقيّ عن عليّ أنه رأى ناسًا قيامًا ينتظرون الجنازة أَنْ توضع، فأشار إليهم بُدرَّة معه، أو سوطٍ، أن اجلسوا، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد جلس بعدما كان يقوم.
ومِنْ ثم قال جماعة بكراهة القيام، كما مرَّ عن المالكية، وقال بها سليم الرّازيّ وغيره من الشافعية، وصرح بها النوويّ في الروضة، لكن قال المتولي بالاستحباب، قال في "المجموع" وهو المختار فقد صحت الأحاديث بالأمر بالقيام، ولم يثبت في القعود شيء إلا حديث عليّ، وليس صريحًا في النسخ لاحتمال أن القعود فيه لبيان الجواز، وقال الأذرعي، فيما اختاره النّوويّ من استحباب القيام نظر, لأن الذي فهمه عليّ رضي الله تعالى عنه الترك مطلقًا، وهو الظاهر، ولهذا أمر بالقعود من رآه قائمًا، واحتج بالحديث.
وقد ورد معنى النهي عن عُبادة قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم للجنازة، فمر به حَبْرٌ من اليهود فقال: هكذا نفعل، فقال: اجلسوا وخالِفوهم. أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النَّسائيّ، فلو لم يكن إسناده ضعيفًا لكان حجة في النسخ. قلت: إنما هو حجة في القيام لجنازة اليهودي خاصة. وقال عياض: ذهب جمع من السلف إلى أن الأمر بالقيام منسوخ بحديث عليّ، وبه قال عُروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود ومالك وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وتعقبه النوويّ بأن النسخ لا يصار إليه إلا مع تعذر الجمع، وهو هنا ممكن.