الزهري. وقال غيره في قول أبي بكر:"لو منعوني عِقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غِنْيةٌ عن حمله على المبالغة، وحاصله أنهم متى منعوا شيئًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو قلّ، فقد منعوا شيئًا واجبًا، إذ لا فرق في منع الواجب وجحده بين القليل والكثير.
قال: وهذا يغني عن جميع التقادير والتأويلات التي لا يسبق اللهم إليها, ولا يظن بالصديق أنه يقصد إلى مثلها، والحامل لمن حمله على المبالغة، أن الذي تمثل به في هذا المقام لابد وأن يكون من جنس ما يدخل في الحكم المذكور، فلذلك حملوه على المبالغة. وقوله: "فوالله ما هو إلا أن قد رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق" أي: ظهر له من صحة احتجاجه، لا أنه قدّره في ذلك.
وقد قيل: إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه استند في قتالهم إلى النص الصريح، مع ما احتج به على عمر. فقد روى الحاكم في الإكليل عن عبد الرحمن الظُّفْريّ: "بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رجل من أشجع لتؤخذ صدقته، فرده، فرجع فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ارجع فأخبره أنك رسول رسول الله، فجاء إلى الأشجعيّ فرده، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: اذهب إليه الثالثة، فإن لم يعطِ صدقته فاضرب عنقه" قال عبد الرحمن بن عبد العزيز، أحد رواة الحديث، لحكيم بن عباد بن حُنيف، أحد رواته أيضًا: ما أرى أبا بكر قاتلهم مُتأَوّلًا، إنما قاتلهم بالنص.
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم في كتاب الإيمان: الاجتهادُ في النوازل، وردها إلى الأصول، والمناظرة على ذلك، والرجوع إلى الراجح، والأدب في المناظرة، فيترك التصريح بالتخطئة، والعدول إلى التلطف، والأخذ في إقامة الحجة إلى أن يظهر للمناظرة، فلو عاند بعد ظهورها، فحينئذ يستحق الإغلاظ بحسب حاله، وفيه الحلف على الشيء لتأكيده.
وفيه منع قتل مَنْ قال لا إله إلا الله ولو لم يزد عليها، وهو كذلك، لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلمًا؟ الراجح لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر، فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإِسلام حُكِم بإسلامه، وإلى ذلك الإشارة بقوله: "إلا بحق الإِسلام". قال البَغَويّ: الكافر إذا كان وثنيًا أو ثنويًا لا يقر بالوحدانية، فإذا قال لا إله إلا الله، حُكِم بإسلامه، ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإِسلام، ويبرأ من كل دين خالف دين الإِسلام، وأما مَنْ كان مقرًا بالوحدانية منكرًا للنبوءة، فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول "محمد رسول الله" فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة، فلابد أن يقول إلى جميع الخلق، فإن كان كفر بجحودُ واجبٍ أو استباحةِ محرم فيحتاجُ أن يَرجع عمّا اعتقده.
ومقتضى قوله: "يجبر" أنه إذا لم يلتزم تجري عليه أحكام المرتد، وبه صرّح القَفّال، واستدل بحديث الباب، فادّعى أنه لم يرد في خبر من الأخبار "أمرتُ أنْ أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" أو "أني رسول الله" وهذه غفلة عظيمة، فالحديث في صحيحي البخاري