وفي طبقات ابن سعد من وجهٍ آخر أن ناسًا من أهل الكوفة قالوا لأبي ذَرٍّ: إن هذا الرجل فعل بك وفعل، هل أنت ناصبٌ لنا راية فنقاتله؟ فقال: لا، لو أن عثمان سيّرني من المشرق إلى المغرب، لسمعت وأطعت. وقوله:"كنت بالشام" يعني بدمشق، ومعاوية إذ ذاك عاملُ عثمان عليها، وقد بيَّن السبب في سكناه الشام ما أخرجه أبو يعلى عن زيد بن وهب، قال: حدّثني أبو ذر قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا بلغ البناء بالمدينة سَلْعًا فارتحل إلى الشام"، فلما بلغ البناء سلعًا قدمت الشام فكنت بها، فذكر الحديث.
وعنده أيضًا بإسناد فيه ضعف عن ابن عباس، قال: استأذن أبو ذَرٍّ على عثمان، فقال: إنه يؤذينا، فلما دخل قال عثمان: أنت الذي تزعم أنك خيرٌ من أبي بكر وعمر؟ قال: لا ولكن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:"إنَّ أحبكم إليّ وأقربكم مني مَنْ بقي على العهد الذي عاهدته عليه، وأنا باق على عهده، قال: فأمره أن يلحق بالشام، وكان يحدثهم ويقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم، إلا ما ينفقه في سبيل الله، أو يعده لغريم، فكتب معاوية إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة فأبعث إلى أبي ذر، فكتب إليه عثمان: أَقْدِم عليّ، فقدم.
وقوله: " {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}" سيأتي في تفسير براءة عن حُصين بلفظ: "فقرأت: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية". وقوله: "نزلت في أهل الكتاب، في رواية التفسير "ما هذه فينا"، وقوله:"فكثر على الناس حتى كأنهم لم يروني" في رواية الطبري أنهم كثروا عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام. قال: فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية على أهل الشام. وقوله:"إن شئت تنحيت"، في رواية الطبريّ "فقال له تَنحَّ قريبًا، قال: والله لن أدع ما كنت أقوله" وكذا لابن مردويه بلفظ: "والله لا أدع ما قلت". وقوله:"حبشيًا" في رواية ورقاء عند ابن مردويه "عبدًا حبشيًا" ولأحمد وأبي يَعلى عن أبي ذَرٍّ "أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال له: كيف تصنع إذا أُخرجت منه؟ أي: المسجد النبوي؟ قال: آتي الشام، قال: كيف تصنع إذا اخرجت منها؟ قال: أعود إليك، أي: المسجد، قال: كيف تصنع إذا أُخرجت منه؟ قال: أضربُ بسيفي. قال: أدلك على ما هو خيرٌ لك من ذلك، وأقرب رشدًا؟ قال: تسمع وتطيع، وتنساق لهم حيث ساقوك".
وعند أحمد أيضًا، عن أسماء بنت يزيد عن أبي ذَرٍّ نحوه. والصحيح أن إنكار أبي ذَرٍّ كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم، ولا ينفقونه في وجهه، وتعقبه النووي بالإبطال؛ لأن السلاطين كانوا مثل أبي بكر وعمر وعثمان، وهؤلاء لم يخونوا. قال صاحب "الفتح": لقوله محمل، وهو أنه أراد من يفعل ذلك وإن لم يوجد حينئذ من يفعله، وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم، أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لاتفاق أبي ذر ومعاوية على أن الآية نزلت في أهل الكتاب. وقد مرَّ ما في ذلك من التفصيل عند حديث ابن عباس في أول الزكاة.
وفيه ملاطفة الأئمة للعلماء، فإن معاوية لم يجسر على الإنكار عليه، حتى كاتب مَنْ هو أعلى