للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كعدو وأعداء. وقال أبو زيد: إذا فتحت الفاء شددت الواو، وإذا كسرتها سكنت اللام كجرو. وضربه به المثل؛ لأنه يزيد زيادة بينة، ولأن الصدقة نتاج العمل، وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيمًا، فإذا أحسن العناية به انتهى إلى حد الكمال، وكذلك عمل ابن آدم، لاسيما الصدقة فإن العبد إذا تصدق من كسب طيب لا يزال نظر الله إليها يكسبها نعت الكمال، حتى ينتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع بينه وبين ما قدم، نسبةُ ما بين التمرة إلى الجبل.

وفي رواية القاسم عن أبي هُريرة عند التِّرْمِذِيّ "فِلْوه أو مهره". ولعبد الرزاق عن القاسمُ "مُهره أو فصيله". وفي رواية له عند البزّار "مُهره أو ضِيعه أو فصيله". ولابن خُزيمة عن أبي هريرة "فُلوه أو قال فصيله" وهذا يشعر بأن "أو" للشك. قال المازريّ: هذا الحديث وشبهه إنما عبّر به على ما اعتادوا في خطابهم، ليفهموا عنه، فكنى عن قبول الصدقة باليمين، وعن تضعيف أجرها بالتربية. وقال عياض: لما كان الشيء الذي يرتضى يُتَلَقَّى باليمين، ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا، واستعير للقبول، كقول الشماخ بن ضرار في عرابة الأوسي:

رأيت عرابة الأوسيُ يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين

إذا مارايه رقعت لمجد ... تلقاها عُرابة باليمين

أي هو مؤهل للمجد والشرق، وليس المراد الجارحة، وقيل: عبر باليمين عن جهة القبول، إذ الشِّمال بضده. وقيل: المراد يمين الذي تدفع إليه الصدقة، وأضافها إلى الله تعالى إضافة ملك واختصاص، لوضع هذه الصدقة في يمين الأخذ لله تعالى، وقيل: المراد سرعة القبول، وقيل حُسنه.

وقال الزين بن المنير: الكناية عن الرضى والقبول بالتلقي باليمين لتثبت المعاني المعقولة في الأذهان، وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات، أي لا يتشكك في القبول كما لا يتشكك من عاين التلقي للشيء بيمينه، لا أن التناول كالتناول المعهود، ولا أنّ المتناول به جارحةٌ. وقال التِّرمِذِيّ في جامعه: قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث، ولا نتوهم فيها تشبيهًا، ولا نقول كيف؟ " هكذا رُوي عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم.

وأنكرت الجهمية هذه الروايات، وقد استوفينا الكلام في الرد عليهم في كتابنا "استحالة المعية بالذات". ويأتي إن شاء الله تعالى العودُ إلى ذلك في كتاب "التوحيد". وقوله: "حتى تكون مثل الجبل" ولمسلم: "حتى تكون أعظم من الجبل" ولابن جرير: "حتى يوافى بها يوم القيامة وهو أعظم من أُحُد" يعني التمرة، وعند التِّرمِذِيّ بلفظ: "حتى أن اللفحة لتصير مثل جبل" قال: وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}.

وفي رواية ابن جرير التصريح بأن تلاوة الآية من كلام أبي هريرة، وزاد عبد الرزاق "فتصدقوا" والظاهر أن المراد بعظمها أن عينها تعظم لتثقل في الميزان, ويحتمل أن يكون ذلك معبرًا به عن ثوابها.

<<  <  ج: ص:  >  >>