ويقوِّي الأولَ التمثيلُ الذي مثّل به مِن فعل أي بكر والأنصار. قال ابن بطال: أجمعوا على أنه لا يجوز للمِديان أن يتصدق بماله ويترك قضاء الدَّين، فتعين حمل ذلك على المحتاج. وحكى ابن رشيد عن بعضهم: أنه يتصور في المِديان فيما إذا عامله الغُرماء على أن يكل من المال. فلو آثر بقوته، وكان صبورًا جاز له ذلك، وإلا كان إيثاره سببًا في أن يرجع لاحتياجه، فيأكل فيتلف أموالهم فيمنع.
ثاني التعاليق: قوله: "كفعل أبي بكر حين تصدق بماله" هذا مشهور في السير، وورد في حديث مرفوع أخرجه أبو داود وصححه التِّرمذيّ والحاكم عن زيد بن أسلم عن أبيه، سمعت عمر يقول:"أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتصدق" فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا فجئت بنصف مالي، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله ... " الحديث، تفرد به هشام بن سعد، وهو صدوق. فيه مقال من جهة حفظه.
قال الطبريُّ وغيره: قال الجمهور: مَنْ تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله، حيث لا دَيْن عليه، وكان صبورًا على الإضافة، ولا عائلة له أو له عيال يصبرون أيضًا، فهو جائز. فإن فُقِد شيء من هذه الشروط كُره. وقال بعضهم: هو مردود، وروي عن عمر، حيث رد على غيلان الثقفيّ، قسمةُ ماله، ويمكن أن يحتج له بقصة المدبر الآتي ذكره، فإنه -صلى الله عليه وسلم- باعه وأرسل ثمنه إلى الذي دبر، لكونه كان محتاجًا.
وقال آخرون: يجوز في الثلث، ويرد عليه الثلثان، وهو قول الأوزاعيّ ومكحول، وعن مكحول أيضًا: يرد ما زاد على النصف، قال الطبريّ: والصواب عندنا الأول من حيث الجواز، والمختار من حيث الاستحباب أن يجعل ذلك من الثلث جميعاً بين قصة أبي بكر، وحديث كعب.
ثالثها: قوله: "وكذلك آثر الأنصار المهاجرين" هو مشهور أيضًا في السِيَر، وفيه أحاديث مرفوعة منها حديث أنس:"قدِم المهاجرونَ المدينةَ وليس عندهم، فقاسمهم الأنصار" وسيأتي موصولًا في الهبة، وحديث أبي هريرة في قصة الأنصاري الذي آثر ضيفه بعشائه وعشاء أهله، وسيأتي موصولًا في تفسير سورة الحشر.
رابعها: قوله: "ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال، وهذا طرق من حديث يأتي موصولًا بتمامه في كتاب الاستقراض، وكتاب الأدب. واستدل به المصنف على رد صدقة المِدْيان، وإذا نُهي الإنسان عن إضاعة مال نفسه فإضاعة مال غيره أولى بالنهي، ولا يقال إن الصدقة ليست إضاعة، لأنها إذا عورضت بحق الدَّين لم يبق فيها ثوابٌ، فبطل كونها صدقة، وبقيت إضاعة محضةً، وإضاعة المال، قال الأكثر: إنه محمول على الإسراف في الإنفاق، وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعًا، سواءًا كانت دينية أو دنيوية، فمنع منه