وقيل في الجواب عن قصة معاذ أنها اجتهاد، فلا حجة فيه، وفيه نظر، لأنه كان أعلم الناسِ بالحلال والحرام. وقد بيَّن له النبي -صلى الله عليه وسلم- لمّا أرسله إلى اليمن ما يصنع، وقيل: كانت تلك واقعة حالٍ لا دلالة فيها، لاحتمال أن يكون عَلِم بأهل المدينة حاجة بذلك، وقد قام الدليل على خلاف عمله ذلك.
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي: كانوا يطلقون على الجزية اسم الصدقة، فلعل هذا منها، وتعقب بقوله:"مكان الشجر والذرة"، وما كانت الجزية حينئذ من أولئك من شعير ولا ذرة، إلا من النقدين. وقوله: أهون عليكم، أراد معنى تسلط السهو عليهم، فلم يقل أهون لكم. وقوله: وخير لأصحاب محمد، أي: أرفق بهم لأن مؤنة النقل ثقيلة، فرأى الأخف في ذلك خيرًا من الأثقل.
وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة في مصنفه، وطاووس مرّ بعد الأربعين من الوضوء ومرّ معاذ في أثر أولَ الإيمان قبل ذكر حديث منه.
ثم قال: وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وأما خالد احتبس أوراعه واعتده في سبيل الله" وهذا طرف من حديث لأبي هريرة يأتى موصولًا في باب قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} مع بقية الكلام عليه، حيث ذكر هناك مستوفى. وخالد المراد به خالد بن الوليد، وقد مرّ في التاسع من الجنائز.
ثم قال: وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تصدقنَ ولو منْ حُلِيِّكِنّ" فلم يستثن صدقة الفرض من غيرها، فجعلت المرأة تلقي خُرصها وسِخابها، ولم يخص الذهب والفضة من العروض.
وهذا طرف من حديث لابن عباس، أخرجه المصنف موصولًا في كتاب العلم في باب "عظة الإِمام النِساءَ" وفي العيدين، في باب موعظة الإمام النساء. وفيه هنا "فجعلت المرأة تلقي خُرصها وسِخابها" والخُرْص بضم المعجمة وسكون الراء بعدها مهملة، الحَلَقة التي تجعل في الأذن، والسِخاب، بكسر المهملة بعدها معجمة وآخره موحدة، القلادةُ. وقوله: ولم يستثن، وقوله: فلم يخص، كلُّ من الكلامين للبخاريّ، ذكرهما بيانًا لكيفية الاستدلال على أداء العرض في الزكاة، وهو مصير منه إلى أن مصارف الصدقة الواجبة، كمصارف صدقة التطوع، بجامع ما فيهما من قصد القربة، والمصروف إليهم بجامع الفقر والاحتياج، إلا ما استثناه الدليل. وأما من وجَّهه فقال: لما أمرّ النبي -صلى الله عليه وسلم- النساءَ بالصدقةِ، في ذلك اليوم، وأَمره على الوجوب، صارت صدقة واجبة، ففيه نظر، لأنه لو كان للإيجاب هنا، لكان مقدارًا، وكانت المجازفة فيه وقبول ما تيسر، غير جائز. ويمكن أن يكون تمسك بقوله:"تصدقنَ" فإنه مطلق يصلح لجميع أنواع الصدقات، واجبها ونفلها، وجميع أنواع المُتَصَدَّق به، عينًا وعَرْضًا، ويكون قوله:"ولو من حِلْيكنّ" للمبالغة، أي: ولو لم يجدن إلا ذلك، وموضع الاستدلال منه للعَرْض قوله:"وسِخابها" لأنه قِلادة تتخذ من مِسْك وقَرَنْفُل ونحوهما، تجعل في العنق. والبخاريّ فيما عرف بالاستقراء من طريقته، يتمسك بالمُطْلَقات تمسك غير بالعمومات.