للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله: "إن هذا المال خَضرة"، أنث الخبر لأن المراد بالمال الدنيا. وقوله: خضرة حُلوة، شبهه بالرغبة فيه والميل إليه، وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء المستلَذَّة، فإن الأخضر مرغوبٌ فيه على انفراده بالنسبة إلى اليابس. والحلو مرغوب فيه على انفراده بالنسبة للحامض، فالإعجاب بهما إذا اجتمعا أشد. وفيه إشارة إلى عدم بقائه لأن الخضراوات لا تبقى ولا تراد للبقاء. وقوله: فمن أخذه بسخاوة نفس، أي: بغير شَرَه ولا إلحاح، أي: من أخذه بغير سؤال، وهذا بالنسبة إلى الأخذ، ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى المعطي أي: بسخاوة نفس المعطي، أي: انشراحه بما يعطيه.

وقوله: كالذي يأكل ولا يشبع، أي: الذي يسمى جوعه الكذاب، لأنه من علة به وسقم، فكلما أكل ازداد سقمًا، ولم يحدث شبعًا، وقد يسمى بالشهوة الكلبية، والظاهر أنه من غلبة السوداء وشدتها، كلما نزل الطعام في معدته احترق، وإلا فلا يتصور أن يسع في المعدة أكثر ما يسع فيه، وقد ذكر أهل الأخبار أن رجلًا من أهل البادية أكل جملًا، وأكلت امرأته فصيلًا، ثم أراد أن يجامعها، فقالت: بيني وبينك جمل وفصيل، كيف يكون ذلك؟

وقوله: اليد العليا خير من اليد السفلى، قد مرّ الكلام عليه مستقصى عند ذكر هذا الحديث في باب "لا صدقة إلا عن ظهر غِنى". وقوله: لا أرْزَأ، بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الزاي ثم همزة، أي لا أنقص ماله بالطلب منه. وفي رواية لإسحاق "قلت: فوالله لا تكون يدي بعدك تحت يد من أيدي العرب"، وإنما امتنع حكيم من أخذ العطاء مع أنه حقه؛ لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئًا، فيعتاد الأخذ، فتتجاوز به نفسه، إلى ما لا يريده، فقطعها عن ذلك، وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، وإنما أشهد عليه عمر لأنه أراد أن لا ينسبه أحد لا يعرف باطن الأمر إلى منع حكيم من حقه.

وقوله: حتى توفي، زاد إسحاق بن راهويه في مسنده مرسلًا: أنه ما أخذ من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا معاوية، ديوانًا ولا غيره حتى مات لعشر سنين من أمارة معاوية. وفي مسنده عن الزهري "فمات حين مات، وإنه لمن أكثر قريش مالًا" وفيه أيضًا سبب ذلك، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى حكيم بن حزام دون ما أعطى أصحابه، فقال: يا رسول الله، ما كنت أظن أن تقصر بي دون أحد من الناس، فزاده ثم استزاده حتى رضي. فذكر نحو الحديث.

قال ابن أبي جمرة في حديث حكيم فوائد منها أنه قد يقع الزهد مع الأخذ، فإن سخاوة النفس هو زهدها. تقول: سخت بكذا، أي: جادت، وسخت عن كذا أي: لم تلتفت إليه. ومنها أن الأخذ مع سخاوة النفس يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق، فتبين أن الزهد يحصل خيري الدنيا والآخرة. وفيه ضرب المثل لما لا يعقله السامع من الأسئلة، لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير، فبين بالمثال المذكور أن البركة هي خلق من خلق الله تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون، فالآكل إنما يأكل ليشبع، فإذا أكل ولم يشبع كان عناء في حقه بغير فائدة،

<<  <  ج: ص:  >  >>