قوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} وحكى الرافعي عن أبي علي الطبري احتمالًا، وقال المهلب: إنه الصحيح لقول عائشة: وليس بعزيمة، واستدل بهذه الأحاديث على أن النهي عن الأكل فوق ثلاث خاص بصاحب الأضحية، فأما من أهدي له أو تصدق عليه فلا، لمفهوم قوله: من أضحيته، وقد جاء في حديث الزبير بن العوام عند أحمد وأبي يعلى ما يفيد ذلك. ولفظه: قلت يا رسول الله: أرأيت قد نهي المسلمون أن يأكلوا من لحم نسكهم فوق ثلاث، فكيف نصنع بما أهدي لنا؟ قال:"أما ما أهدي إليكم فشأنكم به" فهذا نص في الهدية، وأما الصدقة فإن الفقير لا حجر عليه في التصرف فيما يُهدى له؛ لأن القصد أن تقع المواساة من الغني للفقير، وقد حصلت، واختلف في مقدار ما يؤكل منها ويتصدق؛ فذكر علقمة أن ابن مسعود أمره أن يتصدق بثلثه ويأكل ثلثه، ويهدي ثلثه، وروي عن عطاء وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق لقوله:"كلوا وتصدقوا وأطعموا".
قال ابن عبد البر: كان غير الشافعي يقول: يستحب أن يأكل النصف ويطعم النصف، وقال الثوري: يتصدق بأكثره، وعند المالكية يندب جمع الأكل والصدقة والإعطاء بلا حد، وقال أبو حنيفة: ما يجب أن يتصدق بأقل من الثلث، قال صاحب الهداية: ويأكل من لحم الأضحية غير المنذورة، أمّا المنذورة فلا يأكل الناذر معسرًا كان أو موسرًا، وبه قالت الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، وعن أحمد: يجوز الأكل في المنذورة، قال النووي: مذهب الجمهور أنه لا يجب الأكل من الأضحية، وإنما الأمر فيه للإذن، فيندب للمضحي أن يأكل من الأضحية شيئًا، ويطعم الباقي صدقة وهدية.
وعند الظاهرية الأكل واجب عملًا بظاهر الأمر، وذهب بعض السلف إلى الأخذ بظاهر الأمر، وحكاه الماوردي عن أبي الطيب بن سلمة من الشافعية، وأما الصدقة منها فالصحيح أنه يجب التصدق من الأُضحية بما يقع عليه الاسم، والأكمل أن يتصدق بمعظمها، ومتى جاز أكله وهو غني جاز أن يؤكل غنيًا.
وقوله في الحديث:"ادخروا" هو بالمهملة وأصله من ذخر بالمعجمة دخلت عليها تاء الافتعال ثم أدغمت، ومنه قوله تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} ويؤخذ من الإذن في الادخار الجواز خلافًا لمن كرهه. وقد ورد في الادخار:"كان يدخر لأهله قوت سنة" وفي رواية: "كان لا يدخر لغد" والأول في الصحيحين، والثاني في مسلم والجمع بينهما أنه كان لا يدخر لنفسه ويدخر لعياله، أو أن ذلك كان باختلاف الحال، فيتركه عند حاجة الناس إليه، ويفعله عند عدم الحاجة.
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم: نسخ الأثقل بالأخف؛ لأن النهي عن ادخار لحم الأضحية بعد ثلاث مما يثقل على المضحين والإذن في الادخار أخف منه.