عباس: فتعجبت منه، وقد حدَّثني أنه قصر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يدل على أن ابن عباس عمل ذلك على وقوعه في حجة الوداع، لقوله لمعاوية: إن هذا حجة عليك، إذ لو كان في العمرة لما كان فيه على معاوية حجة، وأصرح منه ما عند أحمد عن قيس بن سعد، عن عطاء أن معاوية حدّث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أيام العشر بمشقص معي. وهو محرم، وفي كونه في حجة الرداع نظر، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحل حتى بلغ الهدي محله، فكيف يقصر عنه على المروة؟!
وقد بالغ النووي في الرد على من زعم أن ذلك كان في حجة الوداع فقال: هذا الحديث محمول على أن معاوية قصر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في عمرة الجعرانة، لأنه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع كان قارنًا، وثبت أنه حلق بمنى، وقسم أبو طلحة شعره بين الناس، فلا يصح حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، وغلط غلطًا فاحشًا من زعم أنه عليه الصلاة والسلام كان متمتعًا فيها، وجعل التقصير فيها لتظاهر الأحاديث على أنه قال: قلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر، ولا يصح حمله على عمرة القضاء الواقع سنة سبع، لأن معاوية حينئذٍ لم يكن مسلمًا، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان على الصحيح المشهور، وكون معاوية أسلم عام الفتح هو الصحيح، ولكن يمكن الجمع بأنه كان أسلم خفية، وكان يكتم إسلامه ولم يتمكن من إظهاره إلا يوم الفتح، وقد أخرج ابن عساكر في ترجمة معاوية تصريحه بأن أسلم بين الحديبية والقضية، وأنه كان يخفي إسلامه خوفًا من أبويه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل مكة في عمرة القضية، خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظرونه وأصحابه يطوفون بالبيت، فلعل معاوية كان ممن تخلف بمكة لسبب اقتضاه، ولا يعارضه أيضًا قول سعد بن أبي وقاص فيما أخرجه مسلم، فعلناها يعني العمرة في أشهر الحج، وهذا يومئذٍ كافر بالعُرُش بضمتين يعني بيوت مكة، يشير إلى معاوية؛ لأنه يحمل على أنه أخبر بما استصحبه من حاله، ولم يطلع على إسلامه لكونه كان يخفيه، قلت: هذا الاحتمال -وإن جوز العقل من إخفاء إسلامه-، لا يجوز أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطي رأسه لمظهر الكفر يقصه له، وأصحابه متوافرون، ويعكر على ما جوزوه من أن تقصيره كان في عمرة الجعرانة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ركب من الجعرانة، بعد أن أحرم بعمرة، ولم يستصحب أحدًا معه، إلا بعض أصحابه المهاجرين، فقدم مكة، فطاف وسعى وحلق ورجع إلى الجعرانة، فأصبح بها كبائت، فخفيت عمرته على كثير من الناس.
أخرجه الترمذي وغيره، ولم يعدوا معاوية فيمن كان صحبه حينئذٍ، ولا كان معاوية فيمن تخلف عنه بمكة في غزوة حنين، حتى يقال: لعله وجده بمكة، بل كان مع القوم، وأعطاه مثل ما أعطى أباه من الغنيمة، مع المؤلفة، وأخرج الحاكم في الإكليل أن الذي حلق رأسه عليه الصلاة والسلام في عمرته التي اعتمرها من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة، فإن ثبت