هذا فمن أعلم أهله بوصوله، وأنه يقدم في وقت كذا مثلًا، لا يتناوله هذا النهي، وقد صرح بذلك ابن خزيمة في صحيحه، ثم ساق من حديث ابن عمر قال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزوة فقال:"لا تطرقوا النساء" وأرسل من يؤذن الناس أنهم قادمون، قال ابن أبي جمرة نفع الله به: فيه النهي عن طروق المسافر أهله على غِرَّة من غير تقدم إعلام منه لهم بقدومه، والسبب في ذلك ما وقعت إليه الإشارة في الحديث، قال: وقد خالف بعضهم فرأى عند أهله رجلًا فعوقب بذلك على مخالفته، وأشار بذلك إلى ما أخرجه ابن خزيمة عن ابن عمر قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تطرق النساء ليلًا، فطرق رجلان كلاهما وجد مع امرأته ما يكره، وأخرجه عن ابن عباس بنحوه، وقال فيه: فكلاهما وجد مع امرأته رجلًا، وفي حديث محارب عن جابر أن عبد الله بن رواحة أتى امرأته ليلًا، وعندها امرأة تمشطها، فظنها رجلًا فأشار إليها بالسيف، فلما ذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يطرق الرجل أهله ليلًا، أخرجه أبو عوانة في صحيحه، وفي رواية جابر في النكاح قال: فلما قدمنا ذهبنا لندخل، فقال:"أمهلوا حتى تدخلوا ليلًا" أي عشاءً، وهذا التفسير في نفس الخبر فيه إشارة إلى الجمع بين هذا الأمر بالدخول ليلًا، والنهي عن الطروق ليلًا بأن المراد بالأمر: الدخول في أول الليل، وبالنهي: الدخول في أثنائه، وقد مرَّ قريبًا أن الأمر بالدخول ليلًا لمن أعلم أهله بقدومه، فاستعدوا له، والنهي عمن لم يفعل ذلك، وفي هذا الحديث: الكَيْس الكيس يا جابر! وفي رواية: فعليك بالكيس الكيس، وفي رواية البيوع: أما إنك قادم، فإذا قدمت فالكيس الكيس، وفي رواية أحمد إذا دخلت فعليك بالكيس الكيس.
وقوله في الحديث الأول: الكيس الكيس بالفتح فيهما على الإغراء، وقيل: على التحذير من ترك الجماع، قال الخطابي: الكيس هنا بمعنى الحذر، وقد يكون الكيس بمعنى الرفق، وحسّن الثاني، وقال ابن الأعرابي: الكيس العقل؛ كأنه جعل طلب الولد عقلًا وقال غيره: أراد الحذر من العجز عن الجماع، فكأنه حث على الجماع، وجزم ابن حبان في صحيحه بعد تخريج هذا الحديث بأن الكيس الجماع، وتوجيهه على ما ذكر ويؤيده قوله في رواية محمد بن إسحاق: فإذا قدمت فاعمل عملًا كيسا، وفيه: قال جابر: فدخلنا حين أمسينا فقلت للمرأة: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرني أن أعمل عملًا كيسا، قالت: سمعًا وطاعة. فدونك، قال: فبت معها حتى أصبحت، أخرجه ابن خزيمة في صحيحه قال عياض: فسر البخاري وغيره الكيس بطلب الولد والنسل، وهو صحيح، قال صاحب الأفعال: كاس الرجل في عمله حذق، وكاس ولدا كيسا، وقال الكسائي: كاس الرجل ولد له ولد كيس، وأصل الكيس العقل، كما ذكر الخطابي لكنه بمجرده ليس المراد هنا، والشاهد لكون الكيس يراد به العقل قول الشاعر:
وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على الرجال فإن كيسا وأحمقا