للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.

باب بالتنوين، وسقط عند الأصيلي، والمعاصي مبتدأ، خبره من الجاهلية، والجاهلية زمان الفترة قبل الإِسلام، وسُمي بذلك لكثرة الجهالات فيه، وقد يُطلق في شخص معين أي في حال جاهليته.

ومحصل الترجمة أنه لما قَدَّم أن المعاصي يطلق عليها الكفر مجازًا على إرادة كفر النعمة لا كفر الجَحْد، أراد أن يُبّين أنه كفر لا يُخرج من الملة، خلافًا للخوارج الذين يكفرون بالذنوب، وللمعتزلة القائلين بأنه لا مؤمن ولا كافر، واحتَرَز بالارتكاب عن الاعتقاد، فلو اعتقد حِلَّ حرام معلوم من الدين بالضرورة كفر قطعًا، واستدل المصنف على ما ذكر بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنك امرؤٌ فيك جاهلية" وبآية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: ٤٨]، أما الاستدلال بالآية فظاهر، فإنه صيَّر ما دون الشِّرك تحت إمكان المغفرة، فمن مات على التوحيد غيرُ مخلد في النار وإن ارتكب من الكبائر غير الشرك ما عساه أن يرتكب، والمراد بالشِّرك في هذه الآية الكفر، لأن من جحد نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - مثلًا كان كافرًا ولو لم يَجْعل مع الله إلهًا آخر، والمغفرة منتفية عنه بلا خلاف، وقد يَردُ الشرك ويراد به ما هو أخص من الكفر، كما في قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} وأما قصة أبي ذرٍّ فإنما ذكرت ليُستدَلَّ بها على أن من بقيت فيه خَصْلة من خِصال الجاهلية سوى الشرك لا يخرُجُ عن الإِيمان بها سواء كانت من الكبائر أم الصغائر.

وقوله: "إنك امرؤ فيك جاهلية" أي: إنك في تعييره بأمه على خُلُقٍ من أخلاق الجاهلية، ولست جاهليًا محضًا، مع أن منزلة أبي ذر من الإِيمان في الذِّروة العالية، وإنما وبّخه بذلك على عظيم منزلته عنده تحذيرًا له عن معاودة مثل ذلك، لأنه وإن كان معذورًا بوجه من وجوه العُذر، لكنّ وقوع ذلك من مثله يُستعظم أكثر ممن هو دونه.

<<  <  ج: ص:  >  >>